عن السياسات العمومية في المغرب
مصطلح السياسة العمومية يرجع بنا إلى مفهومين اثنين نشأ أحدهما على أنقاض الآخر، مفهوم الدولة الضبطية (L’Etat-Gendarme/The Minimal State) والتي تحصر مهامها وتدخلاتها في تحقيق الأمن الداخلي والخارجي للبلد، أي تنظيم الجيش، الأمن الوطني والقضاء انطلاقا من مقولة هوبز الشهيرة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان". ومفهوم الدولة الاجتماعية (L’Etat-Providence/The Welfare State) التي تتخذ من العدالة الاجتماعية ركيزة، وتفرض تدخلها في المجالين الاقتصادي والاجتماعي لحماية الأفراد من تغوّل الشركات الكبرى والرأسمالية من أجل بلوغ دولة الرفاه.
السياسات العمومية بشكل عام هي تجلٍ لنشاط الدولة وتدخلّها العملي في قطاع أو قطاعات، لا على المستوى الاقتصادي ولا الاجتماعي. فالسياسة العامة هي برنامج عمل تنهجه السلطات العمومية، يقوم على بحث أو دراسة استقصائية في مشكل يستدعي تدخل الدولة، فتعمل هذه الأخيرة على جرد حلول وسط بين الأطراف المعنية ذات المصالح المتباينة غالبا؛ وهي وسيلة للتعبير (السياسة العامة) عن السلطة، وبالتالي فهي مفروضة على المواطنين كافة، قسرية وإن لم نقل حتى استبدادية، لكنها في المقابل يجب أن ترتكز على الخبرة والمعرفة التقنية والشاملة للمشكل المطروح والحلول الواجب العمل بها. تنفيذ هذه السياسات يتطلب سن نصوص قانونية تحدد الإطار التشريعي وتعزز من مشروعية هذا التدخل للدولة، إضافة إلى تحديد الموارد المالية الضرورية وتعبئة الموارد البشرية اللازمة من أجل إدراك الأهداف المسطرة.
تعتبر السياسات العمومية بالمغرب وسيلة للترقيع أو بالأحرى كما كان يقول أسلافنا المغاربة لوضع "العْكر على الخْنونة" (وضع الزينة فوق المخاط، بمعنى محاولة تزيين وتجميل ما هو مدنس في الأصل)، فأغلب هذه السياسات لم تطرح إلا حلولا صورية الغاية منها التسويق لإرادة كاذبة ولتغيير افتراضي لايزال فكرة قيد التلقيح في عقول الأجهزة الحاكمة. إن تحليل الظواهر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها يتطلب فهما معمّقا لتركيبة الدولة وتنقيبا حريصا في تاريخ نشأتها، لمحاولة فهم المنطق الذي تتخذه لتدبير شؤون الأفراد وبالتالي إنتاج السياسات العمومية التي تؤطر هذا التدبير. في المغرب، نجد أن "المخزن" يتواجد في مركز صنع القرار بل ويحتكره، وذلك على كل المستويات، وبالتالي فإن فهم منطق سن القوانين وإرساء السياسات العمومية وتنظيم الدولة بمختلف قطاعاتها، هو من تفكيك شفرات التركيبة الإيديولوجية والسياسية لهذا التنظيم الذي هرِم على طول أربعة قرون ولايزال قائما إلى اليوم في حلة عصرية، إن لم نقل حتى شبابية، تتناسب والقرنَ الواحد والعشرين. اتسمت أغلب السياسات العمومية أجنبية الصنع، مغربية الإرساء بالعشوائية من جهة، وبالاحتكارية من جهة أخرى. عشوائية لأنها غير دقيقة في اختيار التوقيت في بعض الأحيان وفي تحديد المشكل المراد حله، واحتكارية لأن الحاكم ينفرد بالمشروعية المطلقة في تقريرها وتشريعها وتنفيذها.
ونذكر على سبيل المثال سياسة تعميم التغطية الصحية للمواطنين خصوصا المعوزين منهم، فمنذ 2008 والسلطات العمومية تسعى إلى تمكين هذه الساكنة من الخدمات الصحية، كما أنها استفادت من مساعدات خارجية لإطلاق برنامج "نظام المساعدة الطبية رميد" (Régime d’assistance médicale RAMED) سنة 2011، الذي كان نتاجا لإرادة وموضع عناية ل"ملك الفقراء" بعد توليه مهامه الملكية، لكنه لم يبرهن -البرنامج- عن هذه الإرادة في تحقيق الأهداف التي حدّدها. ففي خطاب العرش لسنة 2018، قيّم الملك ورشه بنفسه مطالبا إعادة النظر في منظومة الحماية الاجتماعية ككل مطبّعا إياها ب"التشتت والضعف في مستوى التغطية والنجاعة"، كما استفرد بعد سنتين، في خطاب عرشه في 2020، باتخاذ قرار تعميم الحماية الاجتماعية لجميع المغاربة خلال السنوات الخمس المقبلة (ابتداء من 2021) دون الرجوع إلى الثغرات التي شابت برنامج التغطية القديم تفاديا لإعادة سيناريو الفشل. الملاحظ هنا، أن هذه القرارات التي تنتج لنا أوراشا وبرامج عمل، مبنية على أساس الخير والإحسان أكثر ما هي مُرتكزة على الخبرة والتقنية، وهذا ما كان بقدر كبير السبب في فشل تمكين المعوزين من المواطنين من التغطية الصحية. فالمشكل كان في عدم الدقة في تحديد الهدف، حيث تم استهداف الطلب على الخدمات الصحية الذي يمثّله المواطنون دون توفير العرض الذي هو الخدمات عينها، أي الموارد البشرية لقطاع الصحة باقتضاب، هذا دون الحديث عن الإرادة السياسية من أساسه، تحسين للحالة الاجتماعية للمواطن أم كسب وده وولائه ببيعه الأوهام؟