جدل الرّغبة والمَلل
سعيد ناشيد
يتوّجع الإنسان من شدّة الألم، لكنه يتوجّع من شدّة الملل أكثر. وإذ تتوفّر الصيدليات على ما يكفي من مضادّات الألم، فإنّ مضادّات الملل لا وجود لها. ذلك أنّ وجع الملل ليس بمشكلة طبية.
لكن الألم نفسه أنواع، بعضها لا يهمّ الطب، من قبيل آلام العوز والحرمان، وهي من أكثر أنواع الألم حضورًا في الحياة اليومية للناس. هنا يكون الفيلسوف الألماني، كارل ماركس، ضروريا لكنه ليس كافياً، حيث هناك أنواع شائعة من العوز والحرمان لا تندرج ضمن الاقتصاد السياسي، بل ضمن اقتصاد الرغبة، وبحيث يتعلّق الأمر بكيفيّة تدبير الرّغبات بصرف النظر عن المستوى المعيشي للإنسان.
جذر المسألة كامن في الكينونة إذا، إذ ينبع العوز من الطبيعة البشرية نفسها، حيث لا يشعر الإنسان بالاكتفاء إلّا نادرًا، سواء أكان من أفقر الفقراء أم أغنى الأغنياء، وهو ما يوافق الحديث النبوي الشهير "لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب". ذلك الوضع قد نسميه في حالة الأغنياء جشعا، وقد نسميه في حالة الفقراء عدالة اجتماعية، وقد نسميه في حالة الطبقة المتوسطة طموحاً مشروعاً، لكن، بمعزل عن أحكام القيمة، ثمّة معادلة أساسية: حين تتوقف الرغبة تتوقف القدرة على الحياة. لكن المعضلة الباقية بعد ذلك هي كيفية تدبير الرغبة بنحو يقلّص من الألم والملل، ما أمكن؟
المعادلة الصعبة أنّ تحقّق الرّغبة سرعان ما يقود إلى الملل، وتعثرها سرعان ما يُسبّب الألم. الحياة مثل رقاص ساعة يتأرجح بين وجع الألم ووجع الملل، وفق تشبيه بليغ للفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور. لكن المؤكد أنّ رقاص ساعة الحياة يميل معظم الأوقات إلى جهة الملل، وذلك لسببين أساسيين:
السبب الأول، ويذكره شوبنهاور نفسه، حين يوضّح أنّ عدم تحقّق الرغبة يصيبنا بالألم، وتحقّقها يصيبنا بالملل. ذلك أنّ الرغبة لا تنتعش إلّا في المسافة الفاصلة بين التعلّق والتحقّق. هذا ما تكشفه تجارب الوضع البشري. مثلا، نحلم طوال عمرنا بالسفر إلى بلد معين، أو الزواج من شخص معين، أو الحصول على وظيفة معينة، فلا تمضي سوى أيام معدودة على تحقّق الهدف المنشود حتى يزول الشّوق وتعود الرتابة. كلّ شيء نرغب فيه سرعان ما نملّ منه بعد الحصول عليه. إنها الحلقة المفرغة للرغبة، والتي تستثمرها الرّأسمالية العالمية لغاية تشجيع الناس على الاستهلاك السريع. ذلك أنّ السوق لا ينتظر أن يتقادم هاتفك المحمول، بل ينتظر منك أن تمل، ويكفي أن تمل لكي تصبح مستهلكا جيدا، وجاهزا لاقتناء الإصدار الأخير من الهواتف الذكية. لا ينتظر السوق أن تتقادم سيارتك، دراجتك، ثلاجتك، ملابسك، بل يعرف أنّ الملل هو أكبر من سيرغمك على تغيير أشيائك، حتى عندما لا تستدعي المصلحة ذلك، طالما قدر الرغبة أن تنتهي عقب تحقّقها إلى معاودة الوقوع في مربع الرتابة والملل.
تحقّق الرّغبة سرعان ما يقود إلى الملل، وتعثرها سرعان ما يُسبّب الألم
هناك سبب آخر، ذلك أنّ الملل لا ينبع فقط من تحقّق الرغبة، بل ينجم في كثير من الأحيان عن انتفاء الرغبة، أو فتورها. إننا نمل حين تتحقّق رغبتنا بالتمام، لكننا نمل أيضا حين تموت فينا الرغبة، حين لا نرغب في أيّ شيء.
ترتبط معركة الإنسان ضدّ الملل بالحاجة إلى تدبير الرغبة إذًا، والتي يبدو كأنها لا تشتعل إلّا ضمن المسافة الفاصلة بين التعلّق والتحقّق. فما إن تتحقّق الرّغبة حتى تمَّحي ليعود الملل، لكنها حين لا تتحقّق فقد تُسبب الألم، ثم تفتر في النهاية، لكي يسود الملل.
لكي تستمرّ الرغبة ينبغي ألّا تتحقّق على وجه السرعة، ينبغي ألّا تتحقّق على وجه التمام، وينبغي للإنسان أن يتصالح مع عوزه الوجودي، فيعتبره شرط دوام الرغبة. وطالما الرغبة هي طاقة الحياة، ستكون الحياة نفسها هي المسافة الفاصلة بين التعلّق والتحقّق، بين الفقد والوجد. تلك فكرة سبق أن توصّل إليها الصوفية في مسالكهم بقولهم: طريق الوصول خير من الوصول.
البحث الدائب عن الطريق نحو تحقيق الرّغبة ضروريّ، لكنه ينبغي ألّا ينسينا أنّ الرّغبة نفسها هي مسافة الطريق. هنا يحتاج الإنسان إلى مهارة تدبير الرّغبة في مختلف مناحي الحياة، سواء تعلّق الأمر بالحياة العاطفية، أو المهنية، أو مختلف التجارب الرّوحية للكائن المدرك لفنائه.
سُئل شيخ تخطّى عامه المائة: أيّ رغبة بقيت لديك لكي تواصل الحياة بعد المائة؟ فأجابهم: أن أسمع عجائبكم، وعجائبكم لا تنقطع.