بين عقلية المفكر والمثقف
الناظر والمتأمل في الحياة يجد أنها مراحل وأطوار، ما إن ينتهي الإنسان من مرحلة حتى يدخل في المرحلة التي تليها بدون فواصل وبدون شعور ويظل يكبر وينمو حتى يصل إلى مرحلة الكبر، كذلك الإنسان المتعلم يظل يتطور ويتعلم من الحياة حتى يصل إلى مرحلة من النضج العقلي والفكري، ولكن نتيجة الظروف والعوامل التي نمر بها والتي فُرضت على مجتمعنا جعلت منا أفرادا متشابهين حتى في التفكير والمنطق، ومما زاد الأمر تعقيدا أن نجد مؤسسات وكيانات تساعد على وجود الآلاف بل أحياناً الملايين من البشر نسخة واحدة لا تتغير ولا تتطور ويظل هو نفس التفكير منذ سنوات عديدة حتى أثناء حل الأزمات التي تمر بها هذه المؤسسات يظل نمط التفكير ونمط الدراسة والبحث والتعمق في مجريات الأمور بنفس الطريقة مع اختلاف المعطيات بل أحياناً اختلاف المطلوب من الحلول.
تحدثنا في مقالات سابقة عن المفكر وصفاته التي تجعله متميزاً منفرداً عن الآخرين، وهو أنه يركز دائماً على نقده للفكرة لا للأشخاص، فالمفكر لا يتناول أشخاصاً بقدر ما يتناول جوانب الفكرة من إيجابياتها وسلبياتها وفرص حدوثها والتهديدات التي تأتي من خلال تطبيقها، كما يدرس تأثير هذه الفكرة على المستقبل، بل إمكانية تطويرها ليصل بها إلى مستويات غير مسبوقة من الفكر وإعمال العقل.
المفكر دائماً يهتم بطرح أسئلة جديدة تعيد صياغة الإشكاليات لمقاربتها ودراستها من زوايا متعددة، فلا يقتصر على جانب واحد بل يتعداها إلى جوانب متعددة، أما المثقف الحالي فيهتم بالدفاع عن هويته الفكرية ويصمم على فرضها أكثر من اهتمامه بإعادة اكتشاف الواقع وتشخيصه فينغرس في الجزئيات ويترك الكليات بل أحيانا يأخذ الموضوع إلى جوانب بعيدة كل البعد عن أصله.
مطلوب من المثقف أن تكون عنده منهجية وموضوعية في مناقشته للأفكار، وأن يبتعد عن المزاجية مع امتلاكه عمق التحليل
المفكر دائماً يكتسب مشروعية تواجده كمفكر من نقده للأفكار ويعمل على المفاهيم ويحاول مرات عديدة الدخول إلى المناطق المعتمة في الذهن، اعتقاداً منه أن ما ينفيه الفكر يكون دائما وأبداً هو ما يفسر فشل الأفكار، أما المثقف الحالي فيحاول اكتساب شرعية وجوده كمثقف من نقد الواقع وفي أغلب الأحيان يقوم بشيطنته في حالة عدم استجابة هذا الواقع لأفكاره وتكرار فشله وعدم تطبيق مقولاته ومبادئه.
المفكر يدعو دائماً إلى الخروج على النماذج والقوالب وكسرها وتجاوز التصنيفات التي لا طائل منها، ويحاول التنقيب عما بداخل الإنسان من كنوز ومكنونات يستطيع أن يقود بها العالم إذا أحسن توظيفها، بل دائما يكسر النمطية ويرفض التعود على فعل الأشياء بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب، بل يلجأ إلى حيل مختلفة يبتكر فيها من المسارات الكلية التي تغيب عن عقل الإنسان. أما المثقف الحالي فأغلبية وقته يتحدث عن صدام الحضارات ويعمل على إبراز نموذجه الحضاري حتى لو عفّى عليه الزمن ويحتاج إلى التطوير أو التغيير أو الاستبدال ويبدأ في مقارنة نموذجه في مقابل عيوب نماذج الآخرين.
المفكر دائماً يهتم بطرح أسئلة جديدة تعيد صياغة الإشكاليات لمقاربتها ودراستها من زوايا متعددة، فلا يقتصر على جانب واحد بل يتعداها إلى جوانب متعددة
المفكر دائماً يمنح الأولوية لتحليل العلاقة بين الفكر والحقيقة لإنتاج معرفة إنسانية تهم كل البشر بغض النظر عن جنسهم أو جنسيتهم، فيعمل على أن يكون إضافة للبشرية لا ناقصاً لها أو منتقصاً منها، يحاول بكل الطرق أن يغير ما حوله إما بالتفكير في أطروحات وأفكار مبدعة، أو يعمل على تغييرها. أما المثقف الحالي فيحاول أن يعطي الأولوية لتجديد تراثه الثقافي، من أجل أن يجعله واقعا على الأرض ويجابه به الجميع حتى لو فقد مشروعيته وفائدته للمجتمع وأصبح عبئاً عليه.
إذا نظرنا لواقعنا العربي نجد أن المثقف معدوم المهارات والصفات إلا القليل فلا يتعظ بالمحاولات العديدة لتأطيره في منطقة معينة، أو سحبه من منطقة التأثير في المجتمع المحيط به إلى فضاء آخر غير فاعل، أو محاولة طمس الحقائق عنده وتشويهها، فيصبح غير قادر على التفريق بين الصواب والأصوب من الأمور. كما أصبح المثقف منغلقاً على فكر معين مما يجعله يصطدم بالأفكار التي تحيط به، لذلك مطلوب من المثقف أن يتصف بالفكر الحر، فالمثقف الحقيقي الذي نريده هو من يتحرر- في المرحلة الأولى- من قيود أهوائه النفسية، ويستسلم للعقل والمنطق. وهذا الأمر يتطلب جهداً ليس بالهين أو اليسير ثم يتحرر- في المرحلة الثانية- من قيود أهواء الآخرين ولا يستسلم للعصبية والقومية والطائفية والحزبية، ثم- مرحلة ثالثة- يتحرر من الأفكار المستوردة التي لا تنسجم مع الثقافة الوطنية والدينية.
أخيراً، مطلوب من المثقف الحالي أن يبتعد عن الجمود والسكون والسطحية في تعاطيه مع الأمور، ويبتعد عن العصبية العمياء الضيقة التي تعطي للمثقف ضيقاً في الأفق واضمحلالاً في التصور وسطحية في الرؤية، وأيضا مطلوب من المثقف أن يكون عنده منهجية وموضوعية في مناقشته للأفكار ويبتعد عن المزاجية مع امتلاكه عمق التحليل، وأن يبتعد عن أسلوب التلقين الببغائي فإنه لا يصنع العقلية المبدعة ذات النهج الموضوعي والفهم العميق، بل يمتلك العقلية التي تهتم بفرز الأفكار ودراستها واستخراج الحسن من الرديء.