بناء العقل... البداية لصناعة التغيير
لاشك في أنّ لكلّ منّا أحلاماً وطموحات حول صناعة التغيير، سواء داخل أنفسنا أو في المحيط الذي نعيش فيه، أو في البلد الذي ننتمي إليه. ولكن، هذا لا يكون، إلا من خلال صناعة التغيير داخل أنفسنا أولاً، فهنا تكمن المحطة الأولى للتغيير، مصداقاً لقوله تعالى "إنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ". ولذا، لن يكون هناك تغيير في المنظمات والمؤسسات والشركات والدول إلا إذا تغيّرت عقلية الأفراد بداخلها، وعلى وجه الخصوص المديرين والمسؤولين. فإذا أراد مدير المؤسسة، أو رئيس الدولة، أن يحقّق التغيير داخل المؤسسة أو الدولة، فعليه أن ينظر في من هم أصغر منه في المسؤولية، أو ينظر إلى الأفراد حوله أكثر من النظر إلى شخصه، لأنه قد يكون هو العقبة الأولى نحو التغيير، ويحتاج بذلك إلى صناعة التغيير داخل ذاته أولًا قبل أن يطالب الآخرين به. ولا يعني هذا أبداً إعفاء الأفراد عن صناعة التغيير داخل ذواتهم، فقد يصبح أحدهم غداً في مواقع المسؤولية أيضاً.
ولكي يتحقّق التغيير بشكلٍ صحيح ينبغي بناء العقل العلمي الواعي المدرك لحقيقة الأمور من حوله، لأنه عن طريق تحرير العقل من الحفظ والتلقين، وبناء أسس خاصة به للتفكير الحر، يكون ويتم التغيير، حيث منَح الله الإنسان قدرات عقلية وذهنية يستطيع من خلالها قيادة التغيير وصناعته. وبدون تعزيز المهارات العقلية لن يستطيع المرء أن يجابه التحديات ويتخطّى العقبات ويدير الأزمات. مثلاً، لو كان الشخص مسؤولاً إدارياً، فإنّ تعزيز مهارات التفكير الاستراتيجي والمنطقي، وتحليل المعطيات وتفسيرهاً، واتخاذ القرارات، من أولى المهارات التي يجب أن يبنيها داخل كينونته. وأمّا، إذا كان مسؤولاً سياسياً، فتعزيز مهارة التحليل والتفكيك والتركيب والتفسير والاستنتاج هي أولى المهارات التي ينبغي أن يعزّزها بداخله، لأنه من خلالها يستطيع قراءة ما وراء الأحداث، واتخاذ قرارات سليمة في المواقف الصعبة. كما لا يكون الشخص مُلهمِاً، يصنع الفارق ويكتب التاريخ، إلا إذا كانت قراراته في الأزمات والتحديات قرارات حكيمة ومنطقية وموضوعية، تساعده على التقدّم إلى الأمام بخطوات ثابتة ورؤى واضحة. ومن خلال بناء هذه العقلية المتفتّحة التي تتقبّل كلّ الخيارات وتناقشها وتفنّدها وتكون قادرة على التفضيل بينها، يمكن قيادة التغيير المنشود.
بناء العقلية الحرّة ليس بالهيّن أو اليسير، بل يحتاج إلى تراكم العديد من المهارات. ومن أولى هذه المهارات بناء العقل على مبدأ الاختلاف، حيث خلقنا الله أفراداً مختلفين في المهارات والقدرات والطاقات. ومن هنا، يُصبح تطابق الأفكار حالة مستحيلة، إذ يستند الوجود إلى مبدأ الاختلاف. وعندما تستثمر المؤسسات والشركات في هذا الاختلاف والتنوّع بين البشر تكون قادرة على الإبداع والابتكار، وتحقيق التقدّم والرقي، وفيه يتمكن الإنسان من قبول الآخر، وقبول الأفكار المختلفة معه دون تعصّب.
بناء العقلية الحرّة ليس بالهيّن أو اليسير، بل يحتاج إلى تراكم العديد من المهارات. ومن أولى هذه المهارات بناء العقل على مبدأ الاختلاف
تحتاج أجسادنا كي تنمو جيداً إلى تغذية صحية (فيتامينات، بروتينات، أو غيرها)، وعندما يقلّ أحدها داخل الجسم تحدث المشكلات الصحية، ويفقد الجسم توازنه في الحياة. كذلك العقل، فلكي يكون متزناً في الحياة، ويسير فيها بشكل صحي، لا بدّ من تغذيته التغذية الصحيحة، وهذا لن يكون إلا بالقراءة (تُوّجت الهند الأولى دولياً في عدد ساعات القراءة، وحلّت تايلاند ثانياً، والصين ثالثًا)، وبدونها (القراءة) لن يستطيع المرء بناء عقلية متفتّحة تتقبّل الأفكار المختلفة، وتبني عقلاً سليماً يأخذ غذاءه بشكل منتظم. ومن خلال القراءة يستطيع المرء أن يتعرّف على فضاءات وآفاق جديدة، تساعده على اكتشاف بواطن الأمور، كما الوصول إلى التطوير والابتكار، فينتقل الفرد من شخص قارئ إلى مثقف ثم مفكر... فأولى درجات التفكير هي القراءة.
ما أحوج أمتنا وشعبنا وأفرادنا إلى بناء عقلية علمية ناضجة، تأخذ من العلم سلاحاً، ومن قبول الآخر منهجاً، ومن القراءة طريقاً... هذا الطريق الذي يقود المؤسسات والدول نحو الرقي والنهضة والتقدّم.