عقليات مقاومة للتغيير
قد يستغرب القارئ من القول بوجود عقليات طاردة للتغيير، بل أحياناً تقاومه وتواجهه بدون شعور أو إرادة منها. قد يتنكر الإنسان لهذه الحقيقة، وقد يفكر أنّي أتحدث عن شخص بعينه، أو منظمة، أو دولة بعينها، ولكن الحقيقة أنّ كلّ شخصية توجد فيها القابلية للتغيير، وأحيانا الطاردة والمقاومة لها، ولكن قد يطغى أحدهما على الآخر، وقد يكون هذا بغير شعور منه، أو إدراك له، فيما هو يعيش ويهيم بنفسه على أنه شخص مغيّر ومطوّر، ويحاول أن يغيّر واقعه، وواقع مؤسسته، أو دولته، أو أمته، ولكن الواقع غير ذلك.
في حديثنا لا نتعرّض للأشخاص المقاومين أو المعارضين للتغيير، فهؤلاء كثر، سواء معارضتهم للتغيير بقصد نفعي أو غيره، ومعارضتهم الظاهرة للتغيير تدفع الأفراد المطالبين بالتغيير دائماً إلى حالة من الصراع مع معارضي التغيير، يقود في النهاية إلى التغيير المأمول والإصلاح المنشود، إنما نتعرْض في مقالنا هذا إلى الأشخاص الموجودين داخل المؤسسات أو الشركات ويدّعون أنهم مع التغيير، وهم ليسوا كذلك، بل أحيانا يعطلون ويعرقلون بغير قصد، نتيجة أسباب عاطفية، أو اجتماعية، أو فهم خاطئ، أو لأسباب فنية، أو فكرية معرفية.
قد تكون أسباب مقاومة البعض للتغيير نتيجة أسباب عاطفية، حيث توجد لدى الفرد دوافع خيالية عاطفية معينة، تحرّكه نحو مقاومة التغيير، سعياً منه نحو ما يظنّه الأمان للشركة أو المؤسسة للحفاظ عليها من خيالات داخل مكنون نفسه فقط، فيضطر أحيانا بدون قصد إلى تعطيل الطاقات وتهميش المقترحات أو حتى تفريغها من مضمونها، خوفاً من المجهول وارتياحه للمألوف، فيظلّ يعرقل أيّ مقترح أو يؤجله حتى يموت، لتوّهمه بأنه يحافظ على أمان الشركة ولعدم خسارتها، وذلك بدون إبداء أي مبرّرات أو دوافع منطقية.
وقد تكون مقاومته للتغيير نتيجة أسباب اجتماعية، فيخاف من الإقدام على شيء نتيجة البيئة التي تربّى فيها وعايشها، حيث لم يعش مخاطرات، ولم يتعرّض لأزمات داخل الشركة أو المؤسسة، ولم يتعامل معها (المخاطر والأزمات) من قبل، فتجده يخاف من القدوم على التغيير المنشود، فالناجحون هم الذين يخوضون المغامرات المحسوبة ويتحملون مخاطرها، فيمحصون بعناية في جميع الخيارات والتقلبات قبل اتخاذ القرارات، ولذا تجدهم يخسرون تارة وينجحون مرّات عديدة، وهم الفائزون في النهاية، فما وصل شخص أو مؤسسة أو دولة إلى التقدم والنهوض بدون الإقدام والمثابرة وتوقع المستقبل ورسمه.
ما وصل شخص أو مؤسسة أو دولة إلى التقدم والنهوض بدون الإقدام والمثابرة وتوقع المستقبل ورسمه
وقد تكون مقاومة التغيير نتيجة الفهم الخاطئ لعملية التغيير داخل الشركة أو المؤسسة، فليس هناك مفهوم واضح للتغيير تمّ الاتفاق عليه عند البدء بعملية التغيير، حيث يبدأ الأفراد أو المسؤولون بإدارة التغيير وفق رؤيتهم الشخصية، فيأخذون التغيير في عكس الاتجاه، لتصبح عملية التغيير مرحلة من الزمن، وتتلاشى بعدها الدافعية والحافز لعملية التغيير ويرجع الأفراد والمسؤولون إلى سابق عهدهم.
وقد تكون مقاومة التغيير نتيجة أسباب فنية، فعدم الوضوح في الإجراءات أو السياسات لكلّ المشاركين في عملية التنفيذ وعدم وضوح المستهدف من عملية التغيير، أو وضع أطر أو حواجز على عملية التغيير بدون إدراك للأسباب الفنية أو العقبات التي تواجهه، أو إعطاء عملية التغيير حجماً أكبر منها بدون حساب للعواقب والمألات، فتدخل الشركة في فضاء غير الذي تريده، ليصبح التغيير في النهاية عبئاً بدلاً من أن يكون دافعاً إلى الأمام.
وقد تكون أسباب مقاومة التغيير فكرية معرفية، فعدم المعرفة بمتطلبات التغيير ومراحله وخطورة تحجيمه من أهم المعوقات نحو التقدم والتطوّر للمجتمعات والمنظمات، كما أنّ عدم استعداد القادة والأفراد لضرورة إحداث التغيير والحاجة إليه وتعطيله أو تأخره يؤدي إلى تأخر المؤسسة أو الشركة أو المنظمة لعقود ويجعلها في ذيل المؤسسات.
أخيراً، يمكن القول إنّ التغيير بحر عميق يغرق فيه الكثير وينجو منه القليل، يحتاج إلى ربان ماهر يستطيع أن يرسم ملامحه، ويحدّد بوصلته، ويضع إجراءاته وسياساته، ويكون عالي الهمة، مقداماً نحو القمة، يستطيع أن يقود السفينة إلى الإمام بإدارة حذرة وذكية، تتمايل مع الأمواج وتتقدّم مع السكون والركون، لتنجو بها إلى برّ الأمان نحو الوصول إلى الطريق المنشود والهدف المرصود، ليحقّق التقدم والنهضة لشركته أو مؤسسته أو دولته.