الفرارُ من الوقتِ المترهّل

30 اغسطس 2024
+ الخط -

تتدلّى ساعاتُ سلفادور دالي السورياليّة في تلك اللوحة الشهيرة، بأشكالها الممطوطة كغسيلٍ منشور على حبلِ الزمنِ العاري. ساعاتُ حائطٍ وجيب، مُلقاة كيفما اتفق، وقد فقدتْ انتظامَ استدارتها واستقامة عقاربها، كما لو كانتْ تحت تأثير حرارة تلك الصحراء الجرداء التي رُميت على أرضها. 

لو كان لي أن أرسمَ الوقت اللبناني، أي وقت المواطن العادي مثلي، لرسمته كما فعل سلفادور دالي تماماً متدلياً ومترهّلاً، دون استطاعة الإفادة منه على الأقل لتحديد الوقت. أو ربّما كقطعةٍ من الجبن، قضمتها من كلِّ زواياها أسنانُ فئران الفوضى التي تعمّ الحياة اللبنانيّة اليوميّة، فئران تسرح وتمرح فوق سطح سفينةٍ مُوشكةٍ دوماً، وباستمرار، على الغرق، دون أن تفعل. كما لو كانت لحظة غرقها متمدّدة في الزمن، على غرار الساعاتِ في لوحةِ دالي.  

كيف يُحتسبُ الوقت الضائع يومياً منّا في محاولةِ العيش بالحدِّ الأدنى من مقوّمات الحياة؟ لا أقصد تأثير ذلك في الاقتصاد الوطني أو ما يشبهه في أهميّته. لا أطمح لذلك. فقدرتي على الحساب ضئيلة جداً. وقدرتي على تصوّر الأرقام الكبيرة، تماماً كقدرةِ العزيز الشاعر والناقد عباس بيضون، الذي قال لي مرّة إنّه لا يستطيع تصوّر أيّ رقم يفوق راتبه الشهري. 

كم نبدّد من أعمارنا في هذه الفوضى المُسمّاة جزافاً بلاداً؟

لكن ما حثني على التفكير بذلك صوتُ ذلك الصديق الغاضب الذي كان يريد زيارتي في بيروت. صوته المختنق بحنقٍ على حافة البكاء، ليومه الذي مضى في محاولاته تفادي حواجز غير مرئية لإنجاز مهمّةٍ واحدة هي: الوصول إلى مكان اللقاء. 

هكذا، مرّ بنوبةِ هلعٍ حين احتُجز في مصعدٍ انقطع التيار الكهربائي عنه أكثر من ربع ساعة، بعد أن كان قد أضاع ساعة ونصف ساعة في زحمةِ سيرٍ لم تكن أسبابها، حسب ما قال، مفهومة، ثم ثلث ساعة يدورُ ويدورُ حول مكان اللقاء في محاولةٍ لركنِ السيّارة. وحين حاولت التخفيف عنه ضاحكة، بمحاولةِ حساب ما ننفقه من وقتٍ على مجرّد الحصول على التيار الكهربائي، قال إنّ صرف الحياة في محاولة التملّص من الفوضى التي تعمّ حياتنا اللبنانية هو مجرّد مضيعة لأعمارنا، وإنّ العمر الذي نعيشه في حالٍ كحالنا، هو عمر مترهّل مهما كنّا شباباً. 

الصورة
سلفادور دالي
(سلفادور دالي)

صحيح. كلُّ الحق معه. كم من الوقت ننفقه من حياتنا، من أعصابنا، من وقتنا الشخصي، على مجرّد محاولة تجاوز العقبات للحصول على أدنى نوعٍ من الخدمات الأساسيّة المفترض توّفرها بداهة؟ كم نبدّد من أعمارنا في هذه الفوضى المُسمّاة جزافاً بلاداً؟ في الدوائر الحكومية، أو على الطرقات، في زحمة السير الأبديّة التي دائماً نحاول فهم أسبابها، مُتمنين أن يكونَ السبب منطقياً ولو كان حادثاً مرورياً، أو في محاولةِ الوصول إلى قرانا البعيدة التي لا تتوفّر لها، إضافة الى أدنى الخدمات، وسائل نقل عامة أو طرقات سالكة؟ أو في محاولة الحصول على تيّار كهربائي مُنتظم وموثوق وآمن، مستقل عن عصاباتِ المولّدات التي أصبحت شراستها تفوق شراسة عصاباتِ المخدّرات.

منذ أسبوعين، ونحن نعيش أيّاماً من العتمة الشاملة. لا تخطئن الظن إن رأيت منظرًا ليليًا مشعشعاً للعاصمة! هذا كلّه مدفوع الثمن فوريًا لجيوب أصحاب المولّدات. أمّا المواطنون الذين لا يملكون بدل بضعة أمبيرات، فهم غير مرئيين. 

في الحقيقة؟ كلُّ شيءٍ في البلاد مُعطَّل، والحرّ لا يُطاق. المياهُ لا تجري في مساربها، فلا كهرباء لضخّها إلى الطوابق العليا حيث الخزانات الفارغة. طبعاً، كان ذلك فرصة استرزاق لمن أصبحوا مرتبطين مهنياً باستمرار الفوضى: "سيترنات" المياه باعت مخزونها، ومولّدات الأحياء زادت سعر الأمبير، وقلّلت من ساعاتِ التغذيّة. عادي. والجيران ما زالوا غير متفقين على تركيبِ ألواح الطاقة الشمسيّة فوق السطح. لماذا؟ هكذا. لأنّهم يستطيعون أن يثبتوا وجودهم بالقدرة على التعطيل، تماماً كالسلطات السياسيّة. مزاجُ الجميع سيئ. الحلقة الأصغر في المجتمع كالحلقة الأكبر. كما تكونون يُولّى عليكم. قول يُترجم بدقة نتائج الديمقراطية لدى شعب لا يستحقها بعد. 

كم من الوقت ننفقه من حياتنا، من أعصابنا، من وقتنا الشخصي، على مجرّد محاولة تجاوز العقبات للحصول على أدنى نوعٍ من الخدمات الأساسيّة المفترض توّفرها بداهة؟

وللنجاة من طوفان "الديمقراطية" بنسختها هذه التي تُسيّد الجهلة والفاسدين على حياتنا العامة، فررت إلى الجبل هاربةً من عتمةٍ لا تزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور. فهناك فوق، قمنا عائلياً بتركيب ألواح الطاقة وحققّنا استقلالنا الكهربائي الذاتي بالانفصال عن الشبكة الأم. هكذا، قلت لنفسي: لن أعود قبل وصول السفينة الجزائرية الشقيقة التي قيل إنّ مخزونها من الفيول، وُهِب لنا من قبل حكومة تلك البلاد الجميلة والطيّبة المتعاطفة مع حالنا، وإنّه سيحقّق لنا ست ساعات من التغذيّة بالتيار. يا للسعادة! 

لكن، وبانتظار ذلك، عدتُ لتفقّد المنزل في بيروت. فوجدتُ ثلاجتي وقد تحوّلت حرفياً إلى "نملية"! ما هي النملية؟ هي خزانة خشبية لحفظ الطعام كانت عند أجدادنا، وكانوا يعلّقونها بالسقف منعًا لجحافل النمل من الزحف على محتوياتها. كان ذلك قبل الكهرباء.

هكذا، وبسبب الانقطاع التام للتيار خلال أيّام غيابي، فرغت بطاريات تخزين الطاقة تماماً. وعندما فتحت الثلاجة المُتوفاة، خرج النمل، حرفياً، منها. 

تذكرت عندها أنّ النمل كان موجوداً أيضاً في لوحة دالي! كان هناك بالفعل، متجمّعاً فوق الساعات المُتوفاة بدورها. لكن لم رسم دالي ذلك؟ ما العلاقة بين الوقت المترهّل والساعات الذائبة، وبين النمل الذي يبدو في اللوحة يقوم بعمله الأبدي؟ 

لم رسم أمير السورياليّة الغرائبي ذلك؟ 

بقيت أفكر هكذا، وأنا أعاود مغادرة بيتي الجميل غير الصالح للسكن في هذا الحرّ الشديد.

وقبل مغادرتي، أمسكت بحفنةٍ من السكر، رششتها أمام سطر النمل المجتهد، الذي تعمل جحافله بانتظام، منذ الأزل، كالساعة، ثم تركت باب الثلاجة مفتوحاً، وخرجت.

آه! ربما كان ذلك بالضبط ما أراد قوله دالي.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى