عالم ينتهي وآخر لا يبدأ
أتدحرج في الشارع، هكذا أحسست، كما لو كانت قدماي تسبقاني وجسدي يلحق بهما. أو ربما كنت أتأرجح وأنا أمشي؟ أقف هكذا أحياناً للحظات، أتمهل لاستعادة توازن أحس أني على شفير فقدانه، ثم أعود للمشي ببطء متزايد بالرغم مني، كعجوز وحيدة لا معين لها، تحمل ثقلاً أكبر من قدرتها.
اضطررت للخروج. مررت بالبنك، استلمت «مصروفي» الشهري من وديعتي المحتجزة منذ ست سنوات. ثم تمشيت كالتائهة، كالآلة الخَرِبة، كالفان رقم أربعة الذي لا يزال، برغم كل الدمار، ينطلق من الضاحية المنكوبة، والذي أقلّني إلى هنا، إلى شارع الحمرا.
أتمشى، وأنا أقنع نفسي بأني أتفقد أحوال المكان ولست هائمة على وجهي، لا أعرف ما الذي عليّ أن أفعله. كما لو كانت أمعائي تعوم في بطني من دون انتظام كما يفعل رواد الفضاء في قمرتهم بسبب انعدام الجاذبية.
بالقرب من «جريدة السفير» التي كانت في عزّها يوم دخلت إسرائيل بيروت عام 1982، والتي وقف العاملون فيها أمام بابها ليمنعوا الجنود من الدخول، انتشر لاجئون متنوّعون من أوطاننا العربية المنكوبة، ونازحون من أماكن القصف، سواء إن كانت في الضاحية أو الجنوب أو البقاع أو حتى من بيروت نفسها، بعد أن قصفت إسرائيل أمس الأول أحد مبانيها السكنية واغتالت ثلاثة من القادة الفلسطينيين، أحدهم من معارفي.
عراقيون، سوريون، سودانيون ومصريون، وما تيسّر من الهائمين على وجوههم في هذا الكوكب البشع، من فقراء إثيوبيا أو الفيليبين أو بنغلادش.
بالقرب من تجمع للنازحين نشط في تلبية طلباتهم دكان صغير للإكسبريس، وعند ناصية الشارع، أتمهل أمام مكتبة صغيرة فتحت أبوابها لسبب ما. أقرأ عناوين الكتب المعروضة محاولة أن أعثر على ما قد يلهيني عمّا يعتمل في داخلي من حزن لا وصف له. كيف تهرب من حزن في داخلك؟
سيدة خمسينية ترتدي ثياباً سوداء كما لو كانت في حداد، تخرج من الداخل وبيدها سيجارة مشتعلة، لتسألني إن كنت أريد مساعدة ما. يبدو وجهها متعباً كمن لم ينم منذ أيام. تسألني، لكنها تنظر في وجهي للحظات، ثم يبدو كما لو أنها تعرفت إليّ من مكان ما. تضع سيجارتها المشتعلة على طرف المنفضة، ثم تمد يدها بلهفة لمصافحتي وهي تقدم نفسها باسمها الكامل، كما لو كنت صديقة قديمة لها التقت بها أخيراً. لعنت ذاكرتي المتخاذلة وأنا أحاول أن أبتسم لتمويه جهلي بمن أتحدث إليها. لكن دفئاً ما نبع من تلك العينين، ومن كفيها اللتين شدّتا على يدي.
نظرت إلى عينيها المحمرتين من بكاء كثير، وهي بدورها نظرت إلى عيني المتورمتين أيضاً، ثم، لم نتمالك أنفسنا وإذ بنا نبكي معاً بصمت دون صوت.
كنا غريبتين، لكن ما نبكي عليه كان واحداً. ها أنا، أخيراً أبكي. أسمح لدموعي التي يحبسها الغضب والوجع الفريد أن تنساب بكل هدوء كما لو كانت قد وجدت أخيراً مكاناً آمناً لكي تذرف نفسها فيه دون شماتة أحد.
بكت، وأنا بكيت. من دون كلمة. جلسنا على ديوان محشور بين الكتب الكثيرة المغبرة في تلك المكتبة الضيقة كونها زاوية التقاء شارعين، والتي زادها عدد الكتب والأغراض داخلها ضيقاً. مجرد غرفة من دون إضاءة، مكفهرة كالسماء في الخارج، تبدو كما أنها فتحت للتو أبوابها بعد أن كانت مغلقة لزمن طويل. محتارة الرائحة بين جو الحانة العابق برائحة السجائر المطفأة والمشروب والسهر، وبين رائحة الكتب التي مضى زمن لم يشترها فيه أحد. نبكي بسكون، ثم تسحب كلتانا، بالدور، منديلاً من العلبة، نمسح به دموعنا، ولا نقول شيئاً. بعد دقائق، تنهدت ثم قالت وهي تبتسم ابتسامة حزينة: «بتشربي قهوة؟».
أراحني البكاء معاً. فأكملت طريقي صعوداً إلى منطقة «البريستول». أمام دكان هواتف صغير جلس شابان يدخنان. سمعت أحدهما يقول للآخر إنه لا يجرؤ على تفقد محله في الضاحية، لا خوفاً من قصف إسرائيلي «اعتدناه»، ولكن تخوفاً مما قد يجده من دمار لمورد رزقه.
سهام أيضاً تنام في منطقة المرفأ حيث تعمل ممرضة متطوعة. ليلة الاغتيال، قرابة الفجر، خانتها ساقاها حين وجدت أن منزلها، الذي يبعد بضعة شوارع عن مكان قصفه الإسرائيليون لجهة منطقة الحدث، بدا متهاوياً على ضوء خيوط الفجر الأولى. وقفت هكذا أمامه لدقائق في ضوء الفجر المنبلج للتو، ثم غادرت المكان المدمر وقفلت راجعة إلى مكان عملها.
في مبنى الكونكورد شارع فردان، بالقرب من شارع الحمرا، أقصد مركزاً لإصدار التأشيرات للاستفسار عن بعض الشروط تحضيراً لتلبية دعوة عمل إلى بلد أجنبي. المركز في الطابق الخامس من المبنى، وجريدة الأخبار التي كنت أعمل فيها في الطابق السادس. عادة أمرّ لتحية الزملاء. لكني اليوم لم أقدر على ذلك.
أغادر المكان وأنا أقول لنفسي إنه ربما لم يكن مروري بالجريدتين اللتين عملت فيهما سحابة واحد وعشرين عاماً صدفة. ربما كنت أفتقد عملي مراسلة ميدانية في زمن الحرب. حين كنت أفعل، كنت أشعر بأني أساهم بشيء ما في معركة الدفاع عن وطني. شيء يجعل لحياتي معنى في هذا البلد الذي «صممه» المستعمر عند «رسم خريطة الشرق» ليكون ساحة صراع وتسويات لأصحاب القوة، لا بلداً آمناً لأهله. واليوم، ها هم يريدون أن يعيدوا «تصميمه». لأي وظيفة؟ أليس واضحاً؟
فائض القوة الذي تتمتع به إسرائيل المتوحشة وكوكب الأقوياء المتنمرين من خلفها يجعلهم منتشين. لا بأس. تعالوا. بكل الأحوال لا خيار لدينا. فلنرَ نهاية الأمر.
في طريق العودة، عند المنعطف أفاجأ بزميل قديم. نقف على بعد مترين، يبتسم متفاجئاً، فرحاً برؤيتي، لكن بعينين متورمتين كعيني. أهمّ بالبكاء مرة أخرى لرؤية حاله، فلا ينبس ببنت شفة، بل يعانقني دون أن يقول كلمة، ويبكي هو الآخر.