السلطة ومتلازمة الإنكار
تُعَدُّ حالةُ الإنكارِ في علمِ النفسِ رفضًا للحقيقةِ والواقعِ، ما يدفعُ الإنسانَ الذي يعاني منها إلى التظاهر بعدم وجود أية مشكلة في ما قد يواجهه من إحباط ومعضلات حياة جراء سوء اختياراته وقراراته مثلا، كما أنه يلجأ إلى إلقاء اللوم على الغير وعلى الظروفِ وعلى كلّ ما يحيط به، ويفعل كل شيء عدا الاعتراف بأخطائه، فيلجأ إلى إنكار المرض مثلا أو الإدمان أو الجريمة، مشاكل العمل أو العلاقات وما إلى ذلك، كما أن هذه المتلازمة هي شكل من أشكال الكبت وأيضا قمع الآخر، ما يفرض سيطرته على أفكار الشخص الذي يعاني منها.
من هنا، نجد أن هذه المتلازمة قد تطورت في الجزائر -على ما يبدو- لتصبح سلوك سلطة بأكملها، سلطة تدمن الإنكار كطريقة للهروب من مسؤولياتها أمام شعب يعاني الكثير من الانهيارات في جميع المجالات الحياتية، وهذا للأسف ليس بالأمر الجديد، فقد عانت الحكومات المتعاقبة منذ سنوات في الجزائر من تداعيات متلازمة الإنكار هذه، ودائما كانت تتخبط في حالات هستيرية تصاحب ممارساتها السادية بشكل محترف، بل إنها تعيشها كحالة دائمة، فتلجأ دائما إلى إلقاء اللوم بعد إخفاقاتها المتكررة في إدارة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية، على كل ما يدب حولها- عداها-، وعلى عوامل ومعوقات هي بالأصل من ابتداعها ومن نتائج خطواتها البهلوانية غير المدروسة وغير المخطط لها سلفا.
لقد اعتاد أن يخرج علينا في كل مرة، وزير ما في حكومات هذا البلد التي تعاقبت سقطاتها، تماما كما فعل وزير الصحة منذ أيام، فقد ظهر بعد صمت طويل ليعلل فشل قطاعه في مواجهة أزمة ندرة الأوكسيجين، فلم يفعل شيئا يحفظ ماء وجهه سوى إنكار ذلك النقص الحاد، وتوجيه أصابع الاتهام إلى ذلك العدو الوهمي الذي يحاربه وينوي له شرا كالعادة.
وهكذا، يستمر الحديث عن مخططات لزعزعة استقرار البلد والحكومة، وتعداد المتربصين بالمسؤول الجزائري، حاقدون لا يملون من محاربته كما يردد دائما، كما أن الذي يحمل على عاتقه قطاعا حساسا جدا كقطاع الصحة في زمن الوباء الذي لم يعد يرحم لا كبيرا ولا صغيرا، لا يخطئ أبدا، إنه معصوم عن الخطأ، وحاشاه أن يعترف بذلك!
هل بالإمكان الآن بعد كل هذا التسلط أن يثق المواطن في سلطة تنكر عذاباته وآلامه ومشاكله، بل تحاسبه أيضا على الشكوى وقول الحقيقة؟
لقد أصبحت هذه الحالة المرضية التي يعاني منها مسؤولونا بمثابة سلوك يروج له في كامل المجتمع، وصار التهرب من تحمل المسؤولية نحو إنكار وجود المشكلة أو أسبابها بالأساس، موضة يتبناها الحاكم والمواطن على حد سواء، لكنها متطورة جدا لدى السلطة، إلى درجة تمكنها من إقناع المتضررين من سلوكياتها، بضرورة الشعور بالذنب لمجرد التفكير في الشكوى والبحث عن أصل الأزمة، إضافة إلى أن الحقيقة تكمن في كون هؤلاء المسؤولين في الواقع عاجزين، فاشلين في تسيير القطاعات التي هم مسؤولون عنها، كما أنهم غير قادرين على إيصال المعلومة الصادقة والواقعية للمواطن، ويجهلون حقا ما يمكن فعله، محاطين بالجهلة والمتشدقين لا بالساهرين على صحة المواطن وراحته.
في الواقع، هذه ليست حالة إنكار وحسب، إنما هي تغييب للحقيقة المعاشة بطريقة مستفزة وغبية، فالجميع يدرك حقيقة المسؤول وكذبه، لأنه فقد القدرة على الدفاع عن نفسه أو تبرير أخطائه، ولا يفكر حتى في الاستقالة لأنها ثقافة مفقودة في حكوماتنا.
من جهة أخرى، لا يخفى على أحد أيضا أن ترسيخ هذه المتلازمة اللعينة التي يواجهنا بها مسؤولونا، لم يكن لينجح لولا الإعلام الأجير والبروباغاندا، إعلام رسمي يردد كالببغاء رسائل سلطوية موجهة، وآخر خاص يدعي الاستقلالية والحياد، ومع ذلك يمشي في خط مُتوازٍ مع نظيره الرسمي ليمنحا صفة مرئية ومسموعة ومقروءة للإنكار والعجز، فلا يجد المبحر بين قنوات التلفزيون وصفحاتها على الإنترنت ما قد يراه في الواقع من مآسي الشعب ومعاناته اليومية في المستشفيات التي تعاني من نقص فادح في أجهزة التنفس والأوكسيجين، إضافة إلى الأطباء الذين بقوا عاجزين في هذه المحنة الوبائية، يطلبون الإعانة من المواطنين بعد أن أتى اليأس على كل صبرهم، وتخلى القطاع الصحي ومسؤولوه عنهم بشكل كامل.
لا يكتفي المسؤول الجزائري إذن بهذا الإنكار، بل إنه يلجأ أيضا إلى الاستعانة بقمع الآراء وأصحاب الأصوات الفاضحة لممارساته، واستغلال المنابر الإعلامية للترويج لمتلازمته رغم أن أرقام الوفيات مخيفة، ومعدلات الإصابة تفوق ما يردده الإعلام بكثير، فكيف إذن نفسر لجوء الحكومة إلى منع ما سمته التهويل ونقل الخوف للمواطن من خلال الترويج لمعلومات هي بالأصل حقيقية وواقعية ونراها كل يوم بيننا، وعلى الجميع إدراكها قبل فوات الأوان؟!
فوق كل هذا، يأتي القمع الأمني الذي يترصد الأشخاص الذين آثروا تصوير ونقل الحالة المزرية التي ألمت بالمستشفيات ومصالح الاستعجالات الخاصة بمصابي كورونا، كنوع من الانتقال من حالة الإنكار إلى حالة من التضييق على الحقيقة والحرمان من حرية نقل المعلومة، كما حدث مع أشخاص كثيرين في مختلف المدن، فهل هذا هو الحل؟
هل بالإمكان الآن بعد كل هذا التسلط أن يثق المواطن في سلطة تنكر عذاباته وآلامه ومشاكله، بل تحاسبه أيضا على الشكوى وقول الحقيقة؟
أليست الآن تشعل فتيلة غضب شعبي إن هو استفحل سيحرقها بكل مؤسساتها التي تحترف الإنكار والنكران؟