والد "جمال بن إسماعين"... ملاكُ الرحمة والحكمة

26 اغسطس 2021
+ الخط -

لقد تماسكنا كثيراً يا جمال، صمدنا ولا نزال مندهشين ومكروبين، تعبنا نفسياً وهرمت أجسادنا خلال أيام معدودة ونحن نواكب صلابة هذا الوالد الحكيم، الأب الجريح المدهوش الذي غيبته الصدمة عن (حزن مرئيٍّ ومسموعٍ)، عن رفضٍ وغضبٍ ونواحٍ، عن هستيريا كان الكثيرون يطلبونها، بل يفرضونها عليه ويستنكرون غيابها، لكونه أبا المغدورِ المقتولِ الّذي وجب عليه أن يبكي فلذة كبده بحرقة بائنة، وبصوت عالٍ يشفي غليل المفجوعين، فكان عليه (حسبهم) أن يلعن جهراً كل الدنيا لفقدان ابنه بتلك الطريقة الفظيعة.

وعكسَ كلِّ ما كان متوقعاً، وما كان ليكون مقبولاً مهما كانت حِدَّتُه، تماسَكَ الأبُ لأجلنا جميعاً، نحن العاجزون عن المضي قُدُماً دون استحضار صورة المغدور أمام أعيننا كل يوم وكل ساعة، صحواً وحتى في الأحلام وأشد الكوابيس وطأةً، يعتصرنا الألم، ألم الخديعة والقتل الوحشي، لأن القتيل لم يكن إنساناً وحسب، بل كان رسولاً للمحبة وللفن وللسلام في بيئته وخارجها.

لقد تماسك والد جمال من أجل ذكرى ابنه التي بقيت تعبث بالسكينة في قلوبنا في كل مرة نتألم لرحيله، كان ملاكاً يبتغي وطناً جديداً دونما ديكتاتورية ودونما نظام فاسد، كان يحلم بوطن يعيش فيه الإنسان والحيوان وحتى النبات والأبنية المهجورة في بيئة مسالمة حسب كل من عرفوه، بعيداً عن كل الكراهية، لكنه (أسفاً) راح ضحيتها.

نعم، لقد تماسك الأب من أجل لجمِ هذا الكره الذي صار يعصرنا، حقدٌ دفينٌ ظهر للعيان من قلوب عديدة كانت تبحث عن عود ثقاب لتشعل نارها، غلّ جعلنا ننظر إلى بعضنا البعض بنظرات الريبة والشك والترقب الخبيث، وبقينا لأيام طويلة رهائن للضغينة، وعرضةً للاشتعال وإحراق بعضنا البعض لأقل خلاف أو اختلاف طفيفٍ في وجهات النظر، تجاه هذه الجريمة التي صنعت مشهداً قاتماً لن يزول سواده من دواخلنا قريباً.

الجرم الكبير لا يلتصق بمنطقة بعينها، ولا بأصل معين، إنما هو جرم الحشد الغاضب الأعمى المُقتادِ الذي وجهته أيادي الحقد والكذب والاتهامات الباطلة

مع ذلك، جاءنا يومٌ وحيدٌ ذابت فيه تلك الصلابة وانهار الصبر لبرهة، وحدث أن بكينا جميعا، هو ونحن، حيثُ خارت قوانا وضعفت صلابتنا مع تلك الانحناءة التي اعوجَّ فيها ظهرُ هذا المكروبِ، وهو يحاول باكياً بحرقةٍ احتواء ملامح ابنه المرسومة بدقة على تلك الجدارية التي تم تخليد ذكرى جمال من خلالها، جدارية تحتفل بروحه المحلقة وتطالب بالعدالة، حيث تجلى وجه الفقيد وهو يضم شعره إلى الخلف وفي عينيه سكينةُ نبيّ.

عينان بارزتان تسكنهما الدهشة، وكأنه لا يصدق ما حدث له، لوالده، ولنا جميعاً، وهو الآن، حيثما هو، يحاول أن يربِّت أكتافنا المتعبة جميعاً، لتمتد يد والده فجأة إلينا، مع تلك الانحناءة المنكسرة والدموع الغزيرة لتساعدنا على رفع ذلك الحمل الثّقيلِ بسَكِينَتِهِ تلك.

إنها الحقيقة، لقد احترق جمال بنار الأشرار القتلة، واحترق الوطن أيضاً بجهنم الخلاف والانشقاق، كما احترق هذا الرجل ووالدته وكل من عرفوه ومن لم يعرفوه. وما كان ذلك الوالد الصبور وفي أصعب موقف (راح يأتي فيه بجثة ابنه المتفحمة)، سوى سحابة كريمة مثقلة بالرحمة، عصرت أحشاءها لتسقينا وتطفئ ولو لوقت قصيرٍ ألسنة نار كانت ستلتهمنا جميعاً.

لقد خرج علينا ليمسح بيده الحانية وصوته المتألم على قلوبنا المغلوبة المقبوضة، وهو الذي اشتعل كبده وحمل في جوفه كل غيظنا المفرط وجنوننا الذي استفحل بعد تلك الجريمة، لقد قبض على عنق خلافاتنا واختلافاتنا، محاولاً كتم صوتها رغم كل ذلك الصراخ الذي كان يدوي في داخله.

أما الآن، فقد حان الوقت لكبح الفرامل، للتوقف، لتأمل هذا الموقف والاتعاظ به، حان الوقت لترك مسافة أمان ومساحة صمت وانتظار، بعدما تحركت العدالة بكل ما يشوبها من مآخذ، ليتم القبض على المتضررين تباعاً وتقديمهم للمحاكمة قريباً، فليس هنالك حل آخر غير القانون والعقاب من طرف الجهات المعنية، لوقف هؤلاء المجرمين وتفادي التغني والمُطالبة بتطبيق قانون الغاب الذي قد يعصف بدولة القانون التي نبتغيها.

لنترك الآن هذا الرجل الملاك وزوجه في سلام ليعيشا حدادهما كما يبتغيان، دعوهما يبكيان ابنهما في غرفة مغلقة وبيت هادئ إلا من الذكرى.

دعونا لا نسكت ولا نصمت حتى تتم معاقبة المتورطين المجرمين كلهم بلا استثناء، ولنطرح الأسئلة المناسبة مراراً بلا خوف، لكن دعونا ندحضُ أيضاً وفي الوقت ذاته، كل تلك الشكوك التي تفرق بيننا كأفراد شعبٍ ميزته التنوع والاختلاف.

علينا أن نحارب كل تلك النيران المستعرة في القلوب في مختلف أنحاء الوطن، لأن الجرم الكبير لا يلتصق بمنطقة بعينها، ولا بأصل معين، إنما هو جرم الحشد الغاضب الأعمى المُقتادِ الذي وجهته أيادي الحقد والكذب والاتهامات الباطلة.

دعونا نغسل قلوبنا وأفكارنا المسمومة، فليست هنالك منطقة مجرمة، ليست هنالك جذور سامة بعينها، بل يوجد أشخاص من كل الجذور والأصول الممكنة، أشخاص مجرمون، يزرعون الحقد حيثما يمكنه أن ينمو بسرعة بين الأشقاء، مستعينين بالاختلاف الذي وجبَ عليه أن يكون الرابط الأكثر صلابة بيننا، كجزائريين جمعهم وطن ثوري واحد، شاركت في ثورته المباركة واستقلاله وجلب حريته الغالية مختلفُ الأعراق.

دلالات
سلمى قويدر .. الجزائر
سلمى قويدر
كاتبة في الصحافة الإلكترونية، من الجزائر، مهتمة بالشأن الثقافي والسياسي والاجتماعي، وأعمل على ترجمة المقالات الأدبية، الفكرية والعلمية، والشعر والفلسفة.