اختلاق الانتصارات من أجل البقاء
منذ إعلان قيام إسرائيل في 15 من مايو/أيار 1948، والدولة الإسرائيلية تحتفي بانتصاراتها على العرب سواء في فلسطين وسورية وكذلك لبنان وفي مصر أيضاً. حرب التحرير التي تقابلها النكبة عندنا، ثم حرب الأيام الستة التي تعرف عربياً بالنكسة، وبعدها حرب الغفران سنة 1973، وهي نفسها حرب أكتوبر، مروراً بما يعتبرونها انتصارات في قمع انتفاضات الشعب الفلسطيني الأعزل.
حاولت إسرائيل منذ تأسيسها، بل حتى قبل ذلك أن تحيط نفسها بهالة كبيرة أنها منتصرة دائماً، وأن قوتها راجعة إلى العقيدة التي بني عليها جيش الدفاع الإسرائيلي وقبله قوات الهاغاناه، ولعل اهتمامها الكبير بالبحث عن الانتصار للدرجة أن تصنعه حتى من قلب الهزيمة كما وقع في حرب أكتوبر 1973، وكذا إصرارها على نسب هذه الانتصارات لها وحدها من دون ذكر مساعدة القوى العظمى لها كما حدث في حرب 1948، خصوصاً الدور البريطاني الكبير في تحجيم قوة الجيوش العربية، يظهر إسرائيل بمظهر الفارس النبيل الذي لا يهزم والذي يستمد قوته من نبل قضيته، وبهذا فإن كل من يفكر في مواجهة هذا الفارس لن يلقى إلا مصيراً واحداً وهو الهزيمة.
كما أن نشر ثقافة الانتصار يعد ترياقاً لاستمرار حياة الدولة اليهودية، حيث إن المواطن الإسرائيلي سواء في المستوطنات أو داخل المدن الإسرائيلية نفسها لم يحس يوماً بالأمان سواء بسبب المقاومة الفلسطينية أو بسبب معرفته أنه يعيش في دولة كل حدودها مشتركة مع شعوب يكنون لهم العداء. ومن ثم إن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعرف جيداً أن صناعة الانتصار تضمن الاستقرار الداخلي كما أن هذه الصناعة تضمن كذلك إطالة عمر إسرائيل وذلك من خلال ضمان الدعم الغربي الذي سيبقى ما دامت أن إسرائيل هي المنتصر وهي ضامن للمصالح الغربية في المنطقة.
استغلال إسرائيل لفكرة الانتصار من أجل ضمان بقائها، وإدراكها أن إعلانها للهزيمة ولو مرة واحدة سيكون بداية الزوال، يتأكد بإنكار إسرائيل الدائم للهزيمة في أكثر من مرة كما حدث في لبنان سنة 2008 وكذلك السنة الماضية في عملية طوفان الأقصى، حيث تصر إسرائيل على الظهور بمظهر المنتصر البطل.
وقد تنبه لهذا الطرح عدد من المفكرين أبرزهم المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون الذي وصف الوضع بوصف "عقم الانتصار" والذي فسره بأن كل انتصار تحققه إسرائيل لا يضمن بقاءها بقدر ما يقربها من المصير المحتوم وهو الانهيار.
وهو ما بدأ يتحقق اليوم، رغم ما تقدّمه إسرائيل بوصفه انتصارات عسكرية في قطاع غزة والضفة الغربية، إلا أنها شددت الخناق على نفسها والعالم كله بدأ يقف على وحشيتها وانتهاكها لحقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما تؤكده مواقف دول مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج، وإدانة المحكمة الجنائية الدولية لنتنياهو وكذلك قيام جنوب أفريقيا برفع دعوى ضد انتهاكات إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني لدى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، من دون نسيان أصوات المناصرة لغزة القادمة من جامعات أميركا، الحليف الأكبر لإسرائيل والداعم لسياستها الاستيطانية.
كل هذه الأحداث والإشارات ما هي إلا دليل على شيء واحد هو أنه مهما أوهمت إسرائيل نفسها أنها انتصرت، فإن مصيرها الزوال وإن استرجاع الفلسطينيين لأرضهم ما هو إلا مسألة وقت لا غير.