احتجاجات إسرائيل: حفلة تنكرية لغوية

28 يوليو 2023
+ الخط -

غيظ كبير تملكني وأنا أتابع على الشاشات التظاهرات التي تعصف بالشارع الإسرائيلي منذ سبعة أشهر، مطالبةً بإيقاف ما وصفه أنصار المعسكر المعارض بـ"الانقلاب القضائي" الذي يقوده اليمين الصهيوني الديني المتطرف.

اندلعت هذه الاحتجاجات دفاعاً عن "ديمقراطية" إسرائيل (دولة الاحتلال والتمييز العنصري) وعن سلطات المحكمة "العليا" التي تلعب دور صمام الأمان في غياب دستور واضح، ضد ميل اليمين الفاشي المتزايد إلى التطرف الصهيوني الديني هناك؛ إذ يُعدّها هؤلاء، بتركيبة قضاتها الحاليّة، ميّالة إلى ما يصفونه بـ"اليسار والليبراليين".

هذا الحدث والتعبير عنه بمفردات لغوية كاليسار واليمين والديمقراطية والديكتاتورية والليبرالية جعلني أتنبه أولاً إلى أنّني، ومنذ فترة طويلة، أصبحت عاجزة (في عالم اليوم) عن التمييز بين من يوصفون باليمين ومن يوصفون باليسار. أمّا في إسرائيل، فللموضوع أبعاد أخرى تتعلق بالفوارق بين المفاهيم الأساسية وما يحصل على أرض الواقع من حشو المصطلحات بمضامين محرّفة لمعانيها الأساسية.  

هكذا، لاحظت، وخلال متابعتي للأخبار، أنّي أعاني من "عسر فهم"، تيمناً بمصطلح "عسر الهضم"، لدى وصف القوى التي تتصارع اليوم هناك على السلطة باسم الديمقراطية والحريات، فبأيّ وصف آخر غير مستعمرين، محتلين، غاصبين، أو ما تيّسر من هذه المفردات، يمكن وصف هؤلاء؟

فما معنى أن تصف مستعمراً لأرض غيره، جلاداً لشعبٍ أعزل، مخترعاً لفنون جديدة في التعذيب، أنّه يساري مثلاً؟ حقاً؟

مفردتا يسار وإسرائيل، أو بمعنى أوسع: حقوق وإسرائيل، حين تجتمعان في جملة واحدة. هما بمثابة طباق لغوي. أو بلغة عادل إمام "واحد في شبرا والتاني في الجيزة" أو "عكس عكاس"

هل يستطيع المحتل الذي يرتكب بحق من يستعمرهم جرائم تطهير عرقي أن يقول عن نفسه يسارياً؟ بأيّ تعريف لليسار؟ حقاً أريد أن أفهم: اليسار المدافع عن العدالة الاجتماعية؟ أم عن المساواة؟ عن الأخوة بين البشر كما كانت تريد الثورة الفرنسية؟ أم عن حقوق الإنسان؟ أم عن حرية تقرير المصير؟ هل يستطيع المحتل الذي ينادي بالليبرالية أن يدّعي إيمانه بالدفاع عن الملكية الخاصة؟ عن المساواة القانونية مع الفلسطينيين؟ دعوني أضحك. 

بالنسبة لي، فإنّ مفردتي يسار وإسرائيل، أو بمعنى أوسع: حقوق وإسرائيل، حين تجتمعان في جملة واحدة، هما بمثابة طباق لغوي. أو بلغة عادل إمام "واحد في شبرا والتاني في الجيزة"، أو "عكس عكاس".

كيف يحق لمن يعتدي كلّ يوم، لا بل كلّ ساعة (اشتركوا في وكالة أنباء فلسطينية وسترون) على كلّ حق من حقوق الفلسطينيين، أن يتظاهر مطالباً بحقوق ما؟ 

قد يقول قائل إنّ هذا السلوك هو سلوك الحكام والسلطة، وإنّ جزءاً كبيراً من مواطني دولة الاحتلال لديهم آراء أخرى تُدين ما يفعله حكامهم بحق الفلسطينيين بهذا القدر أو ذاك.

لكن هل هذا صحيح؟

كيف يحق لمن يرتضي تسويات أخلاقية مع النفس، من نوع تلك التي ارتضاها الإسرائيليون حين هاجروا من بلدانهم الآمنة ليستولوا على بيوت الناس وأملاكهم في أرض بعيدة، أن يطالب بأيّ حق مهما كان، طالما أنّه مدان، بالحدّ الأدنى، بتجاهل الخطيئة الأولى أي الاحتلال ومجازره، وبالحدّ الأقصى بالتطنيش عن استمرار جريمة الاحتلال وتجدّدها كلّ يوم منذ تأسيس الكيان؟ 

في أيّ فقاعة لا أخلاقية ولا إنسانية يعيش هؤلاء؟

قد يقول قائل آخر (غير السابق)، إنّ الخطيئة الأولى التي ارتكبت منذ سبعين عاماً ونيف مرّ عليها الزمن. فهل يمر الزمن على جرائم فظيعة كهذه ولو سكت العالم كلّه عنها لعقود وعقود؟

هل يجهل من يوصفون بالنخبة المدافعة عن الحريات في دولة الاحتلال أنهم في دولة احتلال، وبالتالي أنهم محتلون لأرض غيرهم؟ 

لا أظن. فجريمة الاحتلال، تماماً كجريمة الخطف، وتلك المصنّفة ضد الإنسانية، هي جريمة مستمرة باستمرار خطف الأرض وأهلها، وتصفيتهم يومياً بكلّ الوسائل وفي كل أنحاء فلسطين التاريخية: من النقب إلى الجليل مروراً بكلّ المناطق مهما كان تقسيمها حسب الحروف الأبجدية. 

هناك جريمة مستمرة عبر تزييف دؤوب للتاريخ، وتفنّن باختراع أنواع من الإخفاء القسري لجسد وروح أبناء فلسطين، لِمَحوهم تماماً، بالقتل أو بالتهجير أو بإلغاء الهوية، وصولاً لـ"تدوير الموت"، أو إعادة اختراع آلامه، باحتجاز جثامين الشهداء والأسرى في ثلاجات درجة حرارتها 40 تحت الصفر. بإجراء الاختبارات والتجارب على الأسرى المعروفة أسماؤهم أو أولئك المخفيين عن العالم، مثل يحيى سكاف. هذا العقل الشرير المنفلت من أيّ لجام أو عقال، الخبيث، السادي والطماع، كيف له أن يعامل معاملة الكيانات الطبيعية، فيُوصف بالديمقراطي مثلاً؟ 

هل يجهل من يوصفون بالنخبة المدافعة عن الحريات في دولة الاحتلال أنهم في دولة احتلال، وبالتالي أنهم محتلون لأرض غيرهم؟ هل يجهلون ما الذي يفعلونه بالفلسطينيين باستمرارهم بالبقاء هناك، مواطنين في دولة مستعمرة ومجرمة؟ ساكتين عن كلّ الانتهاكات التي تمارس بحق أهل الأرض الأصليين؟ 

لا معنى لمواطنية تحت الاحتلال حتى للمحتل نفسه؛ فكيف لدولة اخترعت "مقبرة الأرقام" لتؤوي أجساد الشهداء الفلسطينيين بشكل لا يمكن التمييز بينهم، وينزع عنهم هويتهم حتى بعد استشهادهم، وتمتنع عن تسليم تلك الأجساد للأهالي المفجوعين، كيف يمكن أن يوصف مجتمع يرضى بذلك بأوصاف مثل مناضل من أجل الديمقراطية؟

إن كان الدفاع عن البديهيات، وعن مبادئ المساواة والعدالة والوقوف ضد الظلم، ساذجاً، فعلام بُنيت إذاً، شرعة حقوق الإنسان التي وقعتها معظم دول العالم؟

كيف لمن سنّ قانوناً، في خضم الاحتجاجات، يعاقب ويسجن من يرفع العلم الفلسطيني في الجامعات بوصفه "فعلاً إرهابياً"، أن يرفع علم إسرائيل الإرهابية بكلّ المقاييس، في تظاهرات تدّعي أنها تريد الحؤول دون تحوّل الكيان إلى الفاشية؟ وما هي الفاشية يا حبيبي؟

مرّة أخرى: في أيّ فقاعة أخلاقية يعيش هؤلاء؟

قد ينعت الكثيرون هذا الكلام بالساذج أو المثالي. لكن إن كان الدفاع عن البديهيات، وعن مبادئ المساواة والعدالة والوقوف ضد الظلم، ساذجاً، فعلام بُنيت إذاً شرعة حقوق الإنسان التي وقعتها معظم دول العالم؟

حفلة الاحتفاء بالتظاهرات الإسرائيلية وقاموس المصطلحات الذي رافقها في معظم وسائل الإعلام الغربية أو العربية بدت لي مشهداً من "مساخر" (عيد يهودي*)، نوعاً من حفلة تنكرية لغوية، تستخدم فيها أقنعة مفردات نبيلة لوصف أفعال ظاهرها نبيل، لكن طبيعة المشاركين فيها، تُلغي أيّ نبل فيها. 

لا أدري كم من الوقت فعلياً استغرق أمر إبادة الهنود الحمر في أميركا واستيلاء المستوطنين الأوائل على القارة، ولا أدري، بما يهمني، إن كانت فلسطين ستتحرّر في أيامي. لكني أعلم حق العلم أنه بعد مائة وثلاثين عاماً من الاستعمار الوحشي الذي ارتكبت خلاله فرنسا أفظع الجرائم ضد الجزائريين، حصل هؤلاء على استقلالهم بعد أن طردوا المستعمرين بصعوبة قلّ نظيرها وبتضحيات ضخمة.

عندي إيمان بأنّ الفلسطينيين سيسلكون هذا الدرب، لا محالة، مهما جرى تطويع اللغة لتطبيع الواقع. فماهية الأشياء هي التي تصنع أسماءها.

__________

(*) يرتدي اليهود أزياءً تنكرية في عيد "المساخر أو البوريم"، الذي يصادف الثالث عشر من مارس/ أذار في التقويم العبري؛ وفحوى العيد الاستهزاء بهامان الفارسي، والخلاص من "مجزرته".

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.