إيران أم إسرائيل؟
تدور أخيراً نقاشات على وسائط التواصل الاجتماعي بين سوريين وفلسطينيين وعرب، حول أيّهما أخطر على قضايا العرب: إسرائيل أم إيران؟ ومن الطبيعي جداً، والمفهوم أيضاً، أنّ أولئك المذكورين يقاربون السؤال ويستخلصون النتائج وفقاً لمعاييرهم ومصالحهم الخاصة والعامة. فالسوري المعارض لنظام الأسد سيجد في إيران شرّاً مستطيراً، إذ كيف له أن يأمن جانبها، وهي التي لا تزال تدعم نظاماً، قتلهم وشرّدهم ودمّر كلّ حيواتهم؟
أتذكر الآن نقاشاً جرى بيني وبين صديق سوري على منصة فيسبوك إثر عملية 7 أكتوبر. قلت له في معرض ذلك النقاش، إنّ إسرائيل سرطان يجب استئصاله، فعارضني بالقول إنّ اسرائيل مجرّد "رشح" مقارنة بإيران.
أمّا بعض الفلسطينيين، وبخاصة أولئك المؤّيدين لحماس، فسيجدون في إيران الصديق الذي يقدّم الدعم، حتى وإن كان ذاك الدعم شحيحاً، وهم عندما يقارنونه بتخاذل الحكومات العربية أمام الإبادة التي يتعرّضون لها، سيجدون الموقف الإيراني أفضل بما لا يُقاس بمواقف الكثير من الأنظمة العربية.
فلنتوسّع بمروحة النقاش ولنعد إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى عام 1991، عندما ثارت معظم المدن العراقية على نظام صدام حسين، وقمعها الديكتاتور العراقي بالحديد والنار، ليضطر فيما بعد، كثير من العراقيين إلى الفرار إلى الأراضي الإيرانية نجاةً بأرواحهم. هنا في كندا، التقيت الكثير من العراقيين الذين عاصروا تلك المأساة، كانوا يلهجون بالشكر لإيران، وللخميني، ولكلّ القيادات الإيرانية، لأنّها استقبلتهم. وذات الأمر ينطبق على كثير من السوريين بعد الثورة، أولئك الذين فرّوا بأرواحهم من بطشِ نظام الأسد إلى تركيا، ويكيلون كلّ مفردات المديح لأردوغان.
مختصر القول هنا، أنّ الناس العاديين يدافعون غريزياً عن مصالحهم ويشعرون بالجميل لمن يقدّم لهم العون من دون أن يأبهوا بالسياسات والمصالح الدولية، ويتعاملون بوعي أو من دونه مع مصالحهم ضمن عقليةٍ معيارية. وإن كان من لومٍ هنا، فهو يقع بالدرجة الأولى على أنظمةٍ شموليةٍ غيّبت مفهوم الدولة الوطنية، فكان أن استثمرت إيران أو تركيا وغيرهما في نسيجٍ وطنيٍ متهتّك وضعيف.
بالعودة إلى السؤال، موضع النقاش، نقول: هل طرح السؤال بصيغة كهذه صحيح أم خاطئ؟
باعتقادي الشخصي، يجب إعادة صياغة السؤال ليكون على الشكل الآتي: النظام الإيراني أم دولة إسرائيل؛ أيّهما أخطر على القضايا العربية؟
أجزم بأنّ أصحاب العقائد والهُويات الثابتة، دينية كانت أو قومية، لا يودّون ولا يرحّبون بالتمييز بين نظام إيراني وشعب إيراني، فهذا يخدش سرديتهم، ويؤثر سلباً بتجارتهم الرائجة: الطائفية والشوفينية؛ وهنا، يستوي الطائفي السُّني مع الشيعي، لا فرق بينهما، فكلاهما وجهان لعملة واحدة؛ تقف وراءهما وتُغذّيهما بالطبع بعض أنظمة عربية استثمرت في هذا السعار، وفي ذلك ضمانة أكيدة لاستمرار عروشها، وتأجيل للكثير من الاستحقاقات الداخلية تلك المتعلّقة بالتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
النظام الإيراني الحالي، كما هو معروف، ومنذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، استطاع أن يحرف تلك الثورة عن كلّ أهدافها وشعاراتها، ودانت الأمور في النهاية للخميني الذي نصّب نفسه قائداً أوحَدَ بعد أن أمعن قتلاً، وتصفية، ونفياً، لكلّ قيادات الثورة من اليمين واليسار. وفي النهاية وقع الشعب الإيراني بمعظمه تحت سلطةِ نظامٍ قروسطي ديني، وهو بالمآل الأخير توأم لكلّ الأنظمة الديكتاتورية العربية.
النظام الإيراني حليف موضوعي لكلّ الأنظمة العربية الديكتاتورية
وفي الجانب الآخر، الشعب الإيراني هو الشقيق والتوأم كذلك، إنّما للشعوب العربية الرازحة تحت نير سلطات ديكتاتورية، وحاله لا يختلف عن حالها كثيراً. فالقمع والتنكيل بالمعارضين وتبديد الثروات خدمةً لطموحات إمبراطورية جعلته يعيش فقراً مدقعاً، وكلّها مشتركات يعاني منها السوري والمصري والإيراني واليمني والليبي والبحريني بطرق متشابهة، وإن اختلفت التفاصيل. ربّما ما يميّز الشعب الإيراني، أنّه كان سبّاقاً في إطلاق ثورته الخضراء عام 2009 قبيل انطلاق الربيع العربي بسنتين، تلك الثورة التي امتدّت لأشهرٍ بمواجهة قمعٍ أمني شديد، أدّى إلى مقتلِ العشرات واعتقال المئات، إلى جانب فرض الإقامة الجبرية على قادة المعارضة البارزين. وكما هو معروف، فقد كان مصيرها الفشل كمصير الربيع العربي، حيث آلة القتل وقوى الثورات المضادة استطاعت أن تكسب هذه الجولة.
ما يودّ هذه الموجز المكثّف قوله، إنّ إيران هي إيرانان إن جاز التعبير، إيران الشعب الذي نتقاسم وإياه كلّ الهموم والمشاكل، ويفترض (بل يجب) إقامة أوسع الجسور وبناء أمتن العلاقات معه، أمّا إيران الأخرى فهي نظام سلطوي قمعي، وحليف موضوعي لكلّ الأنظمة العربية الديكتاتورية، وهم (أي إيران النظام والأنظمة العربية الديكتاتورية) قد يختلفون على بعض السياسات، إنّما هم متفقون على وضعنا دائماً تحت سلطة أجهزتهما القمعية.
ماذا عن الطرف الآخر من السؤال، إسرائيل؟
نحن هنا نتحدث عن دولة، بقادتها ومجتمعها ككل، تأسّست عنوةً على حسابِ شعبٍ آخر، ولا يوجد دليل أوضح على أنّ "الصراع" بيننا، فلسطينيين وعرباً، مع هذا الكيان صراع صفري. حيث اليوم الذي يحتفل فيه الإسرائيليون بذكرى استقلال دولتهم المزعوم في 15 مايو/ أيار 1948، يقابله لدى الفلسطينيين ما يُعرف بيوم النكبة، وهي المفردة التي ترفضها إسرائيل، وتمنع تداولها في المناهج الدراسية الفلسطينية.
تلك المفارقة الدّالة، حيث الرقص والغناء والاحتفالات في الجانب الإسرائيلي، والحزن والألم وقصص التشريد والقتل التي حلّت بالفلسطينيين في جانب آخر، تؤكد أنّ صراعنا مع تلك الدولة صراع وجودي ولا يقبل القسمة على اثنين. جاءت عملية السابع من اكتوبر/ تشرين الأوّل لتبرهن على حتمية وحيدة، هي أنّ إسرائيل، قادةً ومجتمعاً، لا تقبل بحلِّ الدولة الواحدة ولا بحلِّ الدولتين، فهي تريد أن تلتهم كلّ فلسطين التاريخية، وتنفذ خرائطها التوراتية عليها، وربّما، مستقبلاً، يريد نتنياهو وحكومته المتطرّفة (إن توافرت الظروف) تنفيذ شعار إسرائيل الخالد "حدودك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات".
يتحوّل المجتمع الإسرائيلي بمعظمة نحو اليمين واليمين المتطرف، والميول الفاشية باتت واضحة ولا تخطؤها العين
قد يقول قائل إنّ هذا التطرّف الإسرائيلي، بعد 7 أكتوبر، عابرٌ ويوجد في إسرائيل عقلاء، وبالتالي ستعود الأمور إلى نصابها الصحيح. الردّ على هذا القول بسيط جداً، وهو أنّ كلّ حروب إسرائيل السابقة قادها حزب العمل الذي يُعتبر في التصنيف السياسي حزب معتدل يساري، وله جذور اشتراكية، ويعترف بحقوق للفلسطينيين. هذا الحزب بقيادة أهم رموزه إسحق رابين، قاد مفاوضات أوسلو، وكان يقول لفريقه التفاوضي: "دعهم يلهثون، فلن يحصلوا على أي شيء"، ويقصد هنا الراحل ياسر عرفات وفريق التفاوض الفلسطيني. ورغم ذلك، ولو سلمنا جدلاً بوجود حزب العمل، أو أي فريق إسرائيلي معتدل آخر، يعترف بحقوق الفلسطينيين، فماذا يشكلّون داخل المجتمع الإسرائيلي؟
حزب العمل الذي كان من بين قادته التاريخيين بن غوريون وغولدا مائير وشمعون بيريس وإيهود باراك حصل في آخر انتخابات تشريعية جرت عام 2022 على أربعة مقاعد فقط! هذا الحزب (المصنّف كما أسلفنا معتدلاً!)، والذي كان يشكل حكومات ويقود الدولة، أصبح في خبر كان ويصارع الموت في أيامه الأخيرة، وفقاً للمحلل السياسي الإسرائيلي، شلومو غانور الذي يقول إن "المعسكر اليساري واصل انكماشه داخل المجتمع الإسرائيلي مند نهاية السبعينيات إلى أن بلغ ذروة تراجعه في العقد الأخير". وتشير استطلاعات الرأي العام في إسرائيل إلى أنّ الحزب في أي انتخابات قادمة قد لا يتمكن عملياً من اجتياز نسبة الحسم (3.25٪) من أعداد المصوّتين الفعليين، وهي تعادل أربعة مقاعد، وهذا يعني انقراضه سياسياً. فماذا يعني لنا هذا كفلسطينيين وعرب؟
الجواب موجود في استطلاعات الرأي العام الإسرائيلية، وخصوصاً بعد 7 أكتوبر، إذ تؤكد تلك الاستطلاعات أنّ المجتمع الإسرائيلي يتحوّل بمعظمه نحو اليمين واليمين المتطرف، والميول الفاشية باتت واضحة ولا تُخطئها العين!
والخلاصة، أن ما يُسمّى دولة إسرائيل، سرطان حقيقي لا تنفع معه كلّ العلاجات، ووُجدت لتكون "حاملة طائرات متقدّمة لسياسات غربية استعمارية" تضطلع بأدوار وظيفية كثيرة ومتعدّدة. ولا بأس من فتح قوس هنا لجملةٍ معترضة، كمثال عن تلك الأدوار الوظيفية المتعدّدة، وهي حديث الكثير من السوريين، وهم محقون في ذلك، عن دور إسرائيل في منع سقوط النظام السوري. فمن البدهي هنا أنّ لإسرائيل مصلحة كبرى أن تبقى سورية دولة ضعيفة ومفكّكة بقيادة رئيس مسخ، ضعيف، وفاقد الإرادة. أمّا إيران، نظام الولي الفقيه، فيسقطه الشعب الإيراني، عاجلاً أو آجلاً.