إلى أين ستصل براغماتية الشرع؟
أبدى صديقي الكردي تخوّفه من هيئة تحرير الشام وزعيمها الشرع بعد سقوط النظام، قائلاً: "من تحت الدلف لتحت المزراب"، كناية عن أنّ ما يجري لا يستحق هذا الاحتفال الصاخب مني. هذا الصديق، مثل الكثير من "الجوهرانيين"، ينظر إلى الإسلام السياسي بطريقةٍ استشراقيّةٍ، حيث يرى جميع الحركات الإسلامية، سواء السياسية أو الجهادية، كطيفٍ فكري وقالب مفاهيمي واحد، دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ الإسلام السياسي، بشكل عام، ينتمي، كحقلٍ بحثي، إلى الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية، وأنّه بالمحصلة متغيّر تابع وليس مستقلاً. بتوضيح أكثر: فهم الإسلام السياسي يجب أن ينطلق من الواقع والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، وليس من النصوص فقط.
قلت له: أعتقد أنه لكي نفهم ما يحدث، فإنّ التحليل الذي ينطلق من خلفيّةٍ أيديولوجيّةٍ أو من نظرةٍ قوميةٍ ضيقةٍ غير كافٍ لفهم ما حدث في سورية.
وتابعت: الإسلام السياسي، باعتقادي، أكثر براغماتية وقدرة على التحوّل والتكيّف من أصحاب الأيديولوجيات الأخرى. وضربت له أكثر من مثال على براغماتية ذلك التيار، وبدأتُ بالمثال التركي (كونه يكره تركيا كثيراً)، وشرحت له كيف أنّ البرلمان التركي، رغم سيطرة حزب العدالة والتنمية على الأغلبية فيه، لم يُلغِ "قانون البغاء".
فهم الإسلام السياسي يجب أن ينطلق من الواقع والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، وليس من النصوص فقط
في عامي 2012، 2013، مع تصاعد النفوذ الإسلامي للحزب، وخاصّة خلال فترة رئاسة رجب طيب أردوغان، تزايدت الضغوط الشعبية على الحكومة لإعادة النظر في قوانين البغاء. ومع ذلك، فضّل الحزب عدم إثارة القضية، إذ قد يؤدي ذلك إلى صدام مع قطاعٍ اقتصادي واجتماعي منظّم ومرخّص. لقد تعامل الحزب في تركيا مع هذه القضيّة ببراغماتيّةٍ سياسيّةٍ حافظت على التوازن بين خطابه المحافظ واعتبارات الواقع الاجتماعي والاقتصادي. وبالتالي، ورغم قاعدته الشعبية المحافظة الكبيرة وادّعاء الحزب أنّ تطلعاته تتمحور حول تعزيز القيم الإسلامية في المجتمع التركي، لم يرد الاصطدام بقطاعاتٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ واسعة. كلّ ما فعله الحزب هو تشديد الرقابة الصحية والإدارية. وكان أردوغان وحزبه، بعد وصولهم إلى السلطة، يبرّرون ذلك بأنّ حظر البغاء قد يؤدي إلى انتشار الظاهرة بشكلٍ غير قانوني، ممّا يزيد من جرائم الاتجار بالبشر.
التجربة المغربية مثال آخر ساطع على براغماتية الإسلام السياسي وقدرته على التلوّن والتكيّف. ففي بحث مهم بعنوان "في مزادات السلطة: دراسة نقدية لتجربة الإسلاميين في الحكم بالمغرب" للدكتور عبد الحكيم أبو اللوز، يورد الباحث أمثلة وقضايا عن كيفية تعامل حزب "العدالة والتنمية" المغربي معها قبل تسلّمه السلطة وأثناءها. وهذه بعض الأمثلة:
- قبل الحكم: اعتبر الحزب أنّ العمل داخل الحكومة مسؤولية لخدمة الأمّة وليس سبيلاً للاغتناء، كما رفض شرعية تقاعد البرلمانيين. وأثناء الحكم: تشبّث الحزب بضرورة الحصول على تعويضات عن عملهم في الحكومة واعتبار ما يقومون به عملاً مشروعاً، وصوّت بالرفض على مقترح إلغاء تقاعد البرلمانيين.
الجلوس في "قصر الشعب" يختلف تماماً عن الجلوس في كهوف ومغاور سرية
- قبل الحكم: حرّم المخدرات واعتبرها مُضرّة بشباب الأمة. وأثناء الحكم: صادق على قانون تقنين القنب الهندي.
- قبل الحكم: اعتبر التطبيع جريمة في حقّ فلسطين وخيانة للأمة. وأثناء الحكم وقّع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل.
- قبل الحكم: تشبّث بالعروبة باعتبارها الوعاء الجامع للأمّة، وأثناء الحكم فرنس التعليم.
- قبل الحكم: حرّم العلاقات الرضائية. وأثناء الحكم ظهرت توجّهات داخل الحزب تدعو إلى الحريات الفردية، مثل التي مثّلتها أمينة ماء العينين.
طبعاً، حزب العدالة والتنمية، سواء في تركيا أو المغرب، ليس استثناءً. هناك العديد من الأمثلة على البراغماتية السياسية التي أظهرها الإسلام السياسي في دولٍ متعدّدة، وهي تحتاج إلى أبحاث أكاديمية رصينة لتفسير هذا التكيّف. ومن هذه التجارب، التجربة الماليزية، حيث كان الحزب الإسلامي الماليزي شريكاً في حكومات ائتلافية متعدّدة، وتعامل بمرونة مع الدولة العلمانية. وهناك أيضا تجربة إيران، فهي رغم أيديولوجيتها الواضحة، برعت في نسج العلاقات الدولية ببراغماتية شديدة. كذلك، حزب النهضة في تونس، الذي حافظ على خطابٍ سياسي يدعو إلى فصل الدين عن الدولة بشكلٍ مرن، ممّا سمح له بالبقاء لاعباً سياسياً أساسياً في البلاد.
أما في سورية، فقد طرأ تغيّر هائل خلال أسبوع واحد فقط. خلال هذه الفترة القصيرة، أرسل الشرع إشارات عديدة عن براغماتيّةٍ لافتة للنظر. إلى أين سيصل؟ لا أحد يملك الجواب. بالتأكيد، لا يُتوقّع من الشرع أن يغيّر جذوره دفعة واحدة؛ هذا ربما مستحيل. ولكن الجلوس في "قصر الشعب" يختلف تماماً عن الجلوس في كهوف ومغاور سرية.