أولمبياد باريس للإبادة الجماعية
لا أعلم بِمَ سيستقبلُ الجمهور في مدرّجات أولمبياد باريس وميادينها أعضاء المنتخب الإسرائيلي الذي يصل اليوم الجمعة إلى باريس للمشاركة في الألعاب الأوليمبية المنعقدة بين 27 يوليو/ تموز و11 أغسطس/آب المقبل.
فعلى الرغم من كلِّ الاحتجاجات التي وُجّهت إلى فرنسا الرسمية والرياضيّة لعدم السماح له بالمشاركة، بسبب أفعال إسرائيل الإجرامية في قطاع غزّة والضفة، والذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب، ركبت فرنسا رأسها الصهيوني وأصرّت على حضورِ فريق الإبادة الجماعية.
فعلى وقع أخبار قتل إسرائيل لأكثر من 342 رياضيًا فلسطينيًّا وفق الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، وآخرهم، حارس مرمى فريق خانيونس، شادي أبو عراج، بمجزرة المواصي الأخيرة، تبدو الوقاحة التي برّر بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قراره السماح للمنتخبِ الإسرائيلي بالمشاركة، لا يُضاهيها إلا تذاكيه في تجاهلِ نتائج انتخابات فرنسا التشريعية التي جرت منذ بضعة أسابيع، والتي تلقى بنتيجتها صفعةً مدويةً على خدّه الأيمن، من اليمين المتطرّف، ثم أخرى على خدّه الأيسر (من دون أن يديره) بكفّ تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، التي تضم أحزابًا يسارية وبيئية وأخرى صغيرة.
فأن يقول في مقابلة نُشِرت مؤخرًا، إنّ سبب سماحه لإسرائيل دون الاتحاد الروسي بالمشاركة، كون الأولى، أي إسرائيل، مُعتدًى عليها، في حين أنّ الثانية مُعتدِية على أوكرانيا، مدهش حقاً.
طبعاً كان هذا متوقّعاً في ضوءِ سلوك فرنسا المُتصهين مؤخراً، عكس جزء كبير من الشعب الفرنسي ونخبته الثقافية والفكرية. فالوقاحة هي سمة الفكر الصهيوني. لكن، ولمعلوماتِ من لا يعلم، فإنّ منتخب إسرائيل إلى أولمبياد باريس، وهو يضم رياضيين في مختلف الرياضات يراهن على فوزهم بميداليات ذهبية، خدم غالبية أفراده في حروبِ إبادةِ الفلسطينيين، وآخر فصولها الحرب المسمّاة "السيوف الحديدية" التي شُنَّتْ على القطاعِ منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين أوّل الماضي.
ومع أنّي لا أعلم لم سمّت إسرائيل عمليتها بالسيوف الحديدية مع أنّ السيوف هي رمز للفروسية في الحروب، في حين أنّها، أي إسرائيل، تكتفي بإمطار المدنيين والنازحين في خيمهم بقنابل من وزن طن، مراراً وتكراراً، مُضحّيةً حتى بأرواح رهائنها كما ثَبَت مرّات عدّة، إلا أنّه لا شك أنّ معظم أفراد المنتخب الإسرائيلي، ونظرًا إلى أعمارهم، قد سبق لهم أن خدموا في الجيش، تمامًا كالجندي ابن مدرب منتخب الجودو الذي قُتِل قبل أسبوعين أو أقل في القطاع، والذي طُبِعَتْ صوره على قمصان فريقهم، في صورةٍ شاهدناها منذ يومين على مواقع عبرية أثناء مباراة لفريق كرة القدم في حيفا، أي إنّهم شاركوا بنشاط في أعمالِ الإبادةِ الجماعية التي ارتُكبت ولا تزال تُرتكب حتى الساعة بحقِّ الفلسطينيين، إن كان في غزّة، أو في الضفة.
يبدو أنّ الرياضة لن تكون نجم أولمبياد باريس، بقدر السياسة بوجهها القبيح الذي يحتقر البشر وآلامهم ويتحايل على العدالة الدولية ويهزأ بحقوق الإنسان
وبما أن هذه "المعلومة" ليست سرّاً، من المفهوم أن يتخذ ماكرون إجراءاتٍ أمنيةً استثنائية، تهدّد بتحويلِ الحدث الرياضي إلى حوادث أمنية. خصوصاً أنّ شبح "عملية ميونيخ" التي جرت أوائل السبعينيات، يبدو أنّه يقض مضجع الإسرائيليين والفرنسيين على حدٍّ سواء.
هكذا، أوردت صحيفة لوباريزيان الفرنسية والواسعة الانتشار في خبر منذ أيّام، أنّ إجراءات غير مسبوقة، بالتعاون ما بين المخابرات الفرنسية والإسرائيلية قد اتُّخذت (في الأولمبياد ومقرّ الرياضيين الإسرائيليين ومبارياتهم)، ولو أنّ مسؤولًا أمنيًّا كبيرًا أكد للصحيفة أنّه "لن يكون هناك أمنيون إسرائيليون حاضرون" على أرض الحدث.
كان من الممكن لماكرون تلافي كلّ هذا "المصروف" المادي والمعنوي باختيار الدرب الذي سلكته بلجيكا عبر رفضها إقامة مباريات يشارك فيها إسرائيليون على أراضيها استجابةً للنقمة الشعبية والمخاوف الأمنية على حدٍّ سواء. لكن للأسف هذا لم يحصل.
حسناً، فلنتصوّر السيناريوهات المُحتمل حدوثها في المباريات التي سيشارك فيها هذا المنتخب. فالمرجو أن لا يرتكب أفراد هذا الفريق خطأَ ارتداء تلك القمصان التي طُبِعت عليها صورة الجندي القتيل في غزّة. وإن فعلوا، فسيكون، إضافة إلى حضورهم نفسه، استفزازًا سافرًا لجزءٍ كبير من الجمهور. وعليه، ربّما ستكون هناك ردود أفعال مضادة قد تصل إلى ما لا تُحمد عقباه.
لكن لا شك ستكون هناك احتجاجات بأشكالٍ كثيرة، لن تستطيع القبضة الأمنية المُشدّدة، والتي تُطارد أيّ مناصر لفلسطين، ولو كان بكوفيّة أو علم، أن تمنع حدوثه. احتجاجات، إمّا على طريقة أيرلندا التي أدار فريقها ظهورهم خلال عزف النشيد الإسرائيلي في مبارياتٍ سابقة، أو رفض خوض مبارياتٍ يشارك فيها ممثلو الكيان العبري، أو كما فعل ذلك المحتج الأسكتلندي الذي قيّد نفسه بعمود المرمى لإلغاء مباراة بين منتخب بلاده ومنتخب إسرائيل.
لكن الأهمّ على ما يبدو، أنّ الغموض كما تقول الصحيفة الفرنسية، يحيط باحتمال قدوم مُمثّل عن الحكومة الإسرائيلية إلى حفل الافتتاح. فباريس تتخوّف من "استجابة المحكمة الجنائية الدولية لطلب مدعيها العام كريم خان بإصدار مذكرة توقيف دولية بحق بنيامين نتنياهو. عندها ستكون فرنسا ومن الناحية النظرية ملزمة باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي".
قد يفعلها نتنياهو الوقح، فيعرج في طريق عودته من واشنطن على باريس لظهورٍ مفاجئ في تحدٍّ لرأي عام كبير، يستهول ما يحصل للفلسطينيين، وما يفعله بأهالي الأسرى الإسرائيليين.
لكن، وبغضِّ النظر عن حضوره أو إرساله مُمثلاً عنه، يبدو أنّ الرياضة لن تكون نجم أولمبياد باريس، بقدر السياسة بوجهها القبيح الذي يحتقر البشر وآلامهم ويتحايل على العدالة الدولية ويهزأ بحقوق الإنسان.
أمّا الروح الرياضية المطلوب حضورها في مناسباتٍ كهذه، فيبدو أنّها أُزهقت مع قتلِ إسرائيل المستمر للرياضيين الفلسطينيين والغزاويين خصوصاً، وتحويلها كلّ النوادي الرياضية والكشفية في القطاع إلى ركامٍ من أنقاض.
ركام يشبه سمعة فرنسا الماكرونية اليوم.