.. ومتى كان المنع حلاً؟

18 مارس 2016
+ الخط -
تمر هذه الأيام ذكرى وفاة الناشط والمدون التونسي، زهير اليحياوي، ففي 13 مارس/ آذار 2005، توفي الشاب الذي تحدّى دكتاتورية زين العابدين بن علي عبر الفضاء الإلكتروني. كان قد أطلق مدونته الإلكترونية سنة 2001، واشتق لها اسم "تونيزين"(TUNeZINE)، يضم في بادئته تونس ونهايته زين، في إشارة لتحول الدولة إلى مزرعة في يد الطاغية زين العابدين بن علي وأسرته، يفعلون بها ما شاءوا، في استعادة كاريكاتورية لموقف لويس السادس عشر الذي كان يعلن أنه الدولة، وانتهى حكم الطاغيتين عبر ثورةٍ غيّرت كل منهما المشهد السياسي على المستوى الإقليمي، وشكلت لحظة تاريخية فارقةً لما بعدها.
ربما كانت خصوصية زهير اليحياوي أنه حمل رسالة التحدي عبر الفضاء السبراني، معلناً عن ولادة جيل جديد من المعارضين الشباب، ممن لا يقنعهم الخطاب الرسمي للدولة، ولا ينضوون تحت الأحزاب، ولا تجتذبهم الأيديولوجيا بمعناها المغلق، وهو أمر عبّر عنه بجرأةٍ نادرة عبر مدونته التي كانت تسخر من النظام باللهجة العامية، وتعرّي مساوئ النظام الاستبدادي، بشكل أثار انتباه الأجهزة الأمنية وشرطة الإنترنت في دولةٍ، كانت تعتبر الولوج إلى المواقع الإلكترونية المحظورة جريمةً، عقابها السجن، والتدوين بكل حرية تهديداً للنظام ومساً بهيبة صاحب السلطان.
نظم المخلوع بن علي، سنة 2001 استفتاء شعبياً لتعديل الدستور، بما يسمح له الترشح لولاية رئاسية رابعة، وبصورة غير محدودة بزمن، نظم موقع "تونيزين" استفتاءه الخاص، وكان السؤال الموجه للجمهور: هل تونس مملكة أم جمهورية أم حديقة حيوان أم سجن؟ كان السؤال تكثيفاً لموقف الجيل الجديد مما يجري في البلد الذي تحول بالفعل إلى سجن حقيقي، يمنع كل أشكال التعبير ويطارد كل نزوع للحرية، مهما كانت توجهاته، بلد يمهد فيه رئيس الدولة المشهد ليحول الجمهورية إلى مملكةٍ يحكمها من دون قيود أو قانون أو رقابة شعبية. وتم اعتقال اليحياوي، وخضع لمحاكمةٍ جائرة، وتعرّض للتعذيب الشديد، وانتهى الأمر بخروج المناضل زهير اليحياوي من السجن، بعد 18 شهراً من الاعتقال، و4 إضرابات عن الطعام، وتوفي بعدها متأثراً بما لحقه من تعذيب وظروف اعتقالٍ غير إنسانية. ولم ينته تأثير هذا الشاب، فقد تحوّلت فكرته إلى مصدر إلهام للجيل بأكمله، بوصفه من تحدّى الطاغية، ودافع عن الحريات، وعن حق التعبير. ولم يكن غريباً أن الجيل نفسه الذي ينتمي إليه اليحياوي هو الذي أطاح الطاغية، ولعبت أجهزة التواصل الإلكتروني دوراً مركزياً، في هذا الجهد الشعبي، سواء في كشف فساد النظام، أو في الرد على الإعلام الرسمي المغلق، ونهاية بتغطية أحداث الثورة التونسية، في ظل غياب أجهزة إعلام مستقلة، تتابع الأحداث في الشارع.
تجد رمزية ما قدمه زهير اليحياوي تعبيرها الأقصى في ما تعانيه المنطقة العربية برمتها من
منعٍ وتضييقٍ على كل أشكال التعبير، فما زالت دول الاستبداد العربي تمارس قمعها، وتغلق المواقع الإلكترونية التي تعتبرها خطراً مفترضاً يمس النظام ويهدد استقراره (حجب موقع العربي الجديد مثلاً)، وهو ما يدل على أن هذه الأنظمة ترفض أن تتعلم الدرس، فالتضييق على الحرية والمبالغة في المنع والحظر لا يحمي حاكماً، بقدر ما يجعله هدفاً سهلاً لمزيد الانتقاد والسخرية، وفي ظل تقدم محركات البحث لم يعد الحجب آلية ناجعةٍ للمنع، أو قادرة على محاصرة الأفكار ومحاربتها، فالأنظمة الشمولية التي تحتكر السلطة والنفوذ، وتصادر حرية الفرد وقيمته، وتحوله إلى أداة للطاعة والامتثال والتنفيذ، لا يمكنها أن تستمر طويلاً، فبقاؤها ليس قدراً، وكلما تزايد القمع والمنع والإكراه الذي تمارسه على الناس، لإجبارهم على إلغاء عقولهم وقدرتهم على التفكير، كلما عجلت بنهايتها، فالطغيان السياسي لا يسقط فحسب، عبر التظاهر في الشارع والممارسات الثورية التي تجعل القوة المادية أداةً لتحطيم القوة التي يفرض بها الطاغية سيطرته، ويشيع، من خلالها، مناخاً من الرعب، يسمح له بالاستمرار في الحكم، وإنما بداية سقوط كل سلطةٍ مستبدةٍ، تبدأ في اللحظة التي يحافظ فيها الأفراد على حرية الفكر لديهم.
كانت لحظة بداية سقوط نظام بن علي هي نفسها التي دشن فيها زهير اليحياوي معارضته هذه السلطة، وإعلانه بشكل صارخ رفضه الخضوع وارتهان عقله لإعلام الطاغية المدجّن وللأيدولوجيا الرسمية التي تسوق الأوهام. وكما قال مفكرٌ "كل قوة سياسية تؤثر بالعقول وفي العقول، فالجيوش جيوش بالرأي. وما إن يرفض المواطنون التصديق والاعتقاد، حتى تكف المدافع والرشاشات عن أن تكون قادرةً على فعل أي شيء". ومن هنا، يمكن القول إن أنظمة الاستبداد العربي جميعها هي بصدد خسارة المعركة، حتى وإن تأخر موعد الحسم، وتأجل السقوط، فإن حالة الرفض التي تواجهها هذه الأنظمة، تجعلها بحكم المنهارة، فقد انتهى عمرها الافتراضي فعلياً، وهي تستمر في البقاء فقط بعوامل قهرية، سواء من الداخل أو من الخارج. وكل نظام عربي لا يستوعب طبيعة التحولات، ولا تسارع الأحداث، سيدرك، ولو بعد فوات الأوان، أن سياسات القمع والمحاصرة وتغييب العقول لن (ولم) تمنع سيرورة الشعوب نحو الحرية.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.