04 نوفمبر 2024
هَبّة القدس واستثمار أخطاء ترامب
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
يمثّل إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 6 ديسمبر/كانون الأول الماضي، الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، بدايةَ مرحلة جديدة في التفاعلات الدبلوماسية الإقليمية والدولية، بما يعيد قضية فلسطين إلى الواجهة، وربما يؤجّل قليلاً خطوات تصفيتها، على النحو المخطّط له في ما تسمّى "صفقة القرن". وقد تؤذن المرحلة الدبلوماسية الجديدة بتآكل مفاعيل زيارتي ترامب السعودية وإسرائيل والضفة الغربية، في مايو/أيار الماضي، والتي استثمرتها قوى الثورة العربية المضادة، المتحالفة مع تل أبيب، لمحاصرة القوى الداعمة للتغيير في العالم العربي، وتكثيف الضغوط لتصفية القضية الفلسطينية تماماً.
آنذاك، تحرّك ثنائي "إسرائيل - الديكتاتوريات العربية"، باندفاعٍ شديد، لتوظيف نتائج زيارة ترامب في تدشين الموجة الثانية من "الثورة العربية المضادة" على الربيع العربي، ومن ثم توسيع الحملة الدولية/ الإقليمية في "الحرب على الإرهاب"، وتحقيق أربعة أهداف مترابطة: أولها حصار قطر، وضرب اقتصادها وإعلامها، وتقويض نموذجها السياسي/ الثقافي، في رسالة موجّهة ضمنياً إلى كل من يرفض الانصياع لتوجّهات ترامب، وطموحات التحالف السعودي - الإماراتي. وثانيها، تضييق الخناق على حركتي حماس والجهاد الإسلامي، تمهيداً لنزع سلاحهما، وإخضاعهما لمعطيات "صفقة القرن"، وإنهاء أية مقاومة فلسطينية مسلّحة ضد إسرائيل، لتكريس تفوقها العسكري، وتأمينها من سلاح الصواريخ وأنفاق المقاومة والعمليات
الاستشهادية. وثالثها حشد العالم العربي "السُّنّي" صفاً واحداً مع إسرائيل، ضد إيران وحزب الله وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، باعتبارها جميعاً "العدو الأخطر"، على ثنائي "إسرائيل - الديكتاتوريات العربية". ورابعها تحجيم الدور القيادي التركي في المنطقة، وكبح مساعي أنقرة في تطوير علاقتها بموسكو وطهران، خصوصاً في إدارة الملف السوري، بعيداً عن توجهات واشنطن. ويتضمن هذا التحجيم تكثيف الهجوم الإعلامي/ السياسي على القيادة التركية، وعلى النموذج التركي بكامله، لإرغام أنقرة على الانكماش، ثم الانصياع لمتغيرات النظام الإقليمي الجديد بعد إتمام "صفقة القرن"، بما يعيد تكريس الهيمنة الأميركية/ الإسرائيلية على الشرق الأوسط، ويوقف نمو تأثير الثلاثي الروسي التركي الإيراني.
وبغضّ النظر عن حسابات إدارة ترامب في قرارها بشأن القدس، وما إذا كانت المؤسسات الأميركية قد تنبأت بمستوى ردود الأفعال الفلسطينية والإقليمية والدولية، سواء على الصعيد الشعبي أم الدبلوماسي/ السياسي على هذا القرار، أم فوجئت به، فقد أدّى إلى تسليط الضوء على قضية القدس، وجذب لها مزيداً من التغطية الإعلامية.
في هذا السياق، ثمّة فرصة سانحة بعد قرار ترامب، لكي تتخفّف المنطقة من أسر سياسات المحور الأميركي/ الإسرائيلي. فبعد استخدام واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، لإبطال مشروع قرار مصري، ذهبت قيادة السلطة الفلسطينية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقدّمت تركيا واليمن مشروع قرار للتصويت، حاز تأييد أغلبية تتجاوز الثلثين (128 عضواً)، في مقابل اعتراض تسعة أعضاء، وامتناع 35 عضواً، على الرغم من تصاعد خطاب "التهديد والبلطجة الأميركية"، والتلويح بحجب المساعدات عن الدول، وهيئة الأمم المتحدة نفسها.
ومن دون تهوين أو تهويل من شأن قرار الجمعية العامة، الصادر في 21 ديسمبر/كانون الأول، بشأن المحافظة على وضع القدس من دون تغيير، فإن استثمار القيمة الرمزية/ المعنوية للقرار يبقى الفيصل في تقييم تأثيره على مسار عملية التسوية العربية - الإسرائيلية. وثمة مساران سيتحكّمان في الصراع على زهرة المدائن في الشهور المقبلة: أحدهما المسار الشعبي، ومدى استمرار التحركات الجماهيرية الفلسطينية - والعربية والإسلامية والعالمية، وبقدرة هَبّة القدس على أن تحافظ على زخمها الشبابي، والحشد في الجنازات، وتقديم رموزٍ ملهمة للمقاومة، مثل الشهيد إبراهيم أبو ثريا، أو الطفلة الشجاعة عهد التميمي. وعلى الرغم من تأثيرات الانقسام الفلسطيني الممتد، والتشرذم العربي الراهن، واستحكام الحصار الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، هناك مساحةً ممتازة أمام الحراك الشبابي والشعبي الفلسطيني، تؤهّله للاستمرار أسابيع، وربما شهورا، بسبب عدة عوامل: تراكم الإحباط الفلسطيني من سياسات الاحتلال. مساندة القيادات والمؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية لقضية القدس. على الرغم من ضعف قيادة السلطة الفلسطينية واحتمال عودتها إلى التفاوض، فإنها تستشعر "فظاظة" سلوك إدارة ترامب، وانحيازها الصارخ لإسرائيل، ما حدا بالرئيس محمود عباس إلى تغيير نغمة خطابه في قمة إسطنبول لمنظمة التعاون الإسلامي، في 13 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ثم زيارته فرنسا، وإصراره على عدم استقبال نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، ما أدّى إلى تأجيلها.
أما المسار الآخر في الصراع على القدس، فهو المسار الدبلوماسي/ السياسي. وثمّة مؤشرات
تفيد بأن قضايا القدس ومصير عملية التسوية ومستقبل حل الدولتين قد تصبح عناصر مهمّة في إعادة تشكيل التفاعلات الدبلوماسية في الشرق الأوسط شهورا مقبلة. وقد تسعى كلٌّ من فرنسا وروسيا والصين وتركيا إلى استثمار هذه الفرصة، لكي تفرض لنفسها حضوراً أكبر في عملية التسوية، بحيث تتولّد صيغة جديدة تتجاوز مدريد - أوسلو، القائمة على الانفراد الأميركي بإدارة عملية التسوية، والتي انتهت عملياً إلى تمكين الفاعل الإسرائيلي إلى حدٍّ يمكن أن يفجّر كل تناقضات المنطقة دفعةً واحدة، بما يؤذي مصالح الجميع، بما في ذلك حلفاء واشنطن أنفسهم.
باختصار، فَتَحَ قرار ترامب بشأن القدس الباب أمام أمرين؛ أحدهما استعادة قضية فلسطين عمقها الإنساني العالمي التحرّري. والآخر إمكانية تكوين شبكةٍ من المواقف الشعبية والدبلوماسية لنصرة قضية القدس، بما يقلّل من حجم الاستقطاب الإقليمي الذي فجّرته "الثورة العربية المضادة" في موجتيها الأولى والثانية.
ليس غريباً، في هذا السياق، أن يبدأ المتضرّرون من "تحالف واشنطن - تل أبيب - الديكتاتوريات العربية"، في فتح الطريق أمام مساراتٍ دبلوماسيةٍ، لم تكن ممكنة قبل قرار ترامب. ومن تلك المسارات، توثيق العلاقات الفلسطينية - الأردنية مع تركيا والفاتيكان، والتحرّك نحو الصين وروسيا والهند وفرنسا، وتعزيز العلاقات الفلسطينية مع الدول الإسلامية، إندونيسيا وباكستان وماليزيا وحتى إيران، وتنشيط العلاقات مع دول أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا ودول عدم الانحياز، والسعي إلى تطويق مفاعيل الاختراق الإسرائيلي لدول القارة الأفريقية. وقلْ مثل هذا عن تنشيط حركة منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، بالتواصل مع قوى "المجتمع المدني العالمي"، لتعزيز حملة المقاطعة الدولية التي تقودها "حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات على إسرائيل" (BDS).
على القيادة الفلسطينية استثمار أخطاء ترامب، ودعم "هَبّة القدس"، حتى تتمكّن من فتح الأفق أمام إعادة بناء الإنسان والمجتمع الفلسطينيين، وتعزيز قيم المشاركة والتعاضد، وترميم "المشروع الوطني الفلسطيني"، وإحياء مؤسساته الجامعة، وفي مقدمتها منظمة التحرير.
آنذاك، تحرّك ثنائي "إسرائيل - الديكتاتوريات العربية"، باندفاعٍ شديد، لتوظيف نتائج زيارة ترامب في تدشين الموجة الثانية من "الثورة العربية المضادة" على الربيع العربي، ومن ثم توسيع الحملة الدولية/ الإقليمية في "الحرب على الإرهاب"، وتحقيق أربعة أهداف مترابطة: أولها حصار قطر، وضرب اقتصادها وإعلامها، وتقويض نموذجها السياسي/ الثقافي، في رسالة موجّهة ضمنياً إلى كل من يرفض الانصياع لتوجّهات ترامب، وطموحات التحالف السعودي - الإماراتي. وثانيها، تضييق الخناق على حركتي حماس والجهاد الإسلامي، تمهيداً لنزع سلاحهما، وإخضاعهما لمعطيات "صفقة القرن"، وإنهاء أية مقاومة فلسطينية مسلّحة ضد إسرائيل، لتكريس تفوقها العسكري، وتأمينها من سلاح الصواريخ وأنفاق المقاومة والعمليات
وبغضّ النظر عن حسابات إدارة ترامب في قرارها بشأن القدس، وما إذا كانت المؤسسات الأميركية قد تنبأت بمستوى ردود الأفعال الفلسطينية والإقليمية والدولية، سواء على الصعيد الشعبي أم الدبلوماسي/ السياسي على هذا القرار، أم فوجئت به، فقد أدّى إلى تسليط الضوء على قضية القدس، وجذب لها مزيداً من التغطية الإعلامية.
في هذا السياق، ثمّة فرصة سانحة بعد قرار ترامب، لكي تتخفّف المنطقة من أسر سياسات المحور الأميركي/ الإسرائيلي. فبعد استخدام واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، لإبطال مشروع قرار مصري، ذهبت قيادة السلطة الفلسطينية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقدّمت تركيا واليمن مشروع قرار للتصويت، حاز تأييد أغلبية تتجاوز الثلثين (128 عضواً)، في مقابل اعتراض تسعة أعضاء، وامتناع 35 عضواً، على الرغم من تصاعد خطاب "التهديد والبلطجة الأميركية"، والتلويح بحجب المساعدات عن الدول، وهيئة الأمم المتحدة نفسها.
ومن دون تهوين أو تهويل من شأن قرار الجمعية العامة، الصادر في 21 ديسمبر/كانون الأول، بشأن المحافظة على وضع القدس من دون تغيير، فإن استثمار القيمة الرمزية/ المعنوية للقرار يبقى الفيصل في تقييم تأثيره على مسار عملية التسوية العربية - الإسرائيلية. وثمة مساران سيتحكّمان في الصراع على زهرة المدائن في الشهور المقبلة: أحدهما المسار الشعبي، ومدى استمرار التحركات الجماهيرية الفلسطينية - والعربية والإسلامية والعالمية، وبقدرة هَبّة القدس على أن تحافظ على زخمها الشبابي، والحشد في الجنازات، وتقديم رموزٍ ملهمة للمقاومة، مثل الشهيد إبراهيم أبو ثريا، أو الطفلة الشجاعة عهد التميمي. وعلى الرغم من تأثيرات الانقسام الفلسطيني الممتد، والتشرذم العربي الراهن، واستحكام الحصار الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، هناك مساحةً ممتازة أمام الحراك الشبابي والشعبي الفلسطيني، تؤهّله للاستمرار أسابيع، وربما شهورا، بسبب عدة عوامل: تراكم الإحباط الفلسطيني من سياسات الاحتلال. مساندة القيادات والمؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية لقضية القدس. على الرغم من ضعف قيادة السلطة الفلسطينية واحتمال عودتها إلى التفاوض، فإنها تستشعر "فظاظة" سلوك إدارة ترامب، وانحيازها الصارخ لإسرائيل، ما حدا بالرئيس محمود عباس إلى تغيير نغمة خطابه في قمة إسطنبول لمنظمة التعاون الإسلامي، في 13 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ثم زيارته فرنسا، وإصراره على عدم استقبال نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، ما أدّى إلى تأجيلها.
أما المسار الآخر في الصراع على القدس، فهو المسار الدبلوماسي/ السياسي. وثمّة مؤشرات
باختصار، فَتَحَ قرار ترامب بشأن القدس الباب أمام أمرين؛ أحدهما استعادة قضية فلسطين عمقها الإنساني العالمي التحرّري. والآخر إمكانية تكوين شبكةٍ من المواقف الشعبية والدبلوماسية لنصرة قضية القدس، بما يقلّل من حجم الاستقطاب الإقليمي الذي فجّرته "الثورة العربية المضادة" في موجتيها الأولى والثانية.
ليس غريباً، في هذا السياق، أن يبدأ المتضرّرون من "تحالف واشنطن - تل أبيب - الديكتاتوريات العربية"، في فتح الطريق أمام مساراتٍ دبلوماسيةٍ، لم تكن ممكنة قبل قرار ترامب. ومن تلك المسارات، توثيق العلاقات الفلسطينية - الأردنية مع تركيا والفاتيكان، والتحرّك نحو الصين وروسيا والهند وفرنسا، وتعزيز العلاقات الفلسطينية مع الدول الإسلامية، إندونيسيا وباكستان وماليزيا وحتى إيران، وتنشيط العلاقات مع دول أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا ودول عدم الانحياز، والسعي إلى تطويق مفاعيل الاختراق الإسرائيلي لدول القارة الأفريقية. وقلْ مثل هذا عن تنشيط حركة منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، بالتواصل مع قوى "المجتمع المدني العالمي"، لتعزيز حملة المقاطعة الدولية التي تقودها "حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات على إسرائيل" (BDS).
على القيادة الفلسطينية استثمار أخطاء ترامب، ودعم "هَبّة القدس"، حتى تتمكّن من فتح الأفق أمام إعادة بناء الإنسان والمجتمع الفلسطينيين، وتعزيز قيم المشاركة والتعاضد، وترميم "المشروع الوطني الفلسطيني"، وإحياء مؤسساته الجامعة، وفي مقدمتها منظمة التحرير.
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
أمجد أحمد جبريل
مقالات أخرى
31 أكتوبر 2024
29 سبتمبر 2024
13 سبتمبر 2024