11 نوفمبر 2024
همومٌ عربية على هامش الانتخابات التركية
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
في غمرة تحليل نتائج الانتخابات التركية أخيرا، واستخلاص دروسها، ولا سيما ارتفاع نسبة التصويت فيها، قد يغيب عن البال تأمّل أحوال العرب ومواقفهم من "التجربة التركية"، سواء كانوا مقيمين في تركيا، أم يتابعونها من بعيد، بمشاعر مختلطة ومتنوعة. وقد يكشف تحليل "طريقة التفاعل العربية" مع هذه الانتخابات، وما تعكسه من سماتٍ نفسية وعقلية، مواطن قصورٍ في إدراكنا العربي، ليس في فهم ما يجري في بلاد الأناضول فحسب، بل في إدراك جوهر التغيّر الذي يحدث في بنية النظامين، الدولي والإقليمي، حالياً، وانعكاساته على العالم العربي.
وقد يزيد هذا "القصور الإدراكي" من تأزّم القضايا العربية، خصوصاً بعد إجهاض "ثنائي إسرائيل – الديكتاتوريات العربية"، ثوراتِ الشباب العربي، الواعدة ديمقراطياً وسياسياً، في بداياتها الأولى، لكي نعود إلى "ثقافة سياسية معطوبة، تجترّ عيوبها القديمة/ الجديدة"، في إدراكها الذات والآخر. وإضافة إلى عَيبَي الانحياز والتحيز، مع "التجربة التركية" أو ضدها، ثمة ثلاث ملاحظاتٍ نقدية في تعامل العرب مع هذه التجربة.
الأولى أنه يهيمن على بعضنا نمطٌ من "التفكير بالتمنّي" (Wishful Thinking)؛ إذ يجري تحميل تركيا آمالَ العرب وإحباطاتهم في آن. مع تقصيرنا في "واجب الوقت"، تجاه ذاتنا ومشكلاتنا المزمنة. وبهذا المعنى، يصبح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي فاز من الجولة الأولى بنسبة تتجاوز 52%، وهَزمَ استطلاعات الرأي، فضلاً عن منافسيه الخمسة، حفيد السلطان محمد الفاتح أو وريثه. وهنا يصرُّ عوامُّ العرب، وجزءٌ من خاصّتهم وفقهائهم، على القيام بـ "إسقاطات غير منهجية"، على الصعيدين التاريخي والسياسي، على أردوغان وبلده، ويتم رفع سقف التوقعات في ما يمكن أن تقدمه أنقرة، لخدمة الشعوب العربية وثوراتها المغدورة، لا سيما الثورة السورية. .. هل ينمُّ ذلك عن "عقلية انتظار" لدينا نحن العرب، حين نكفّ عن الفعل، أو نكتفي بالحد الأدنى منه، بانتظار "المُنقذ المُخلِّص"، أو "الزعيم الملهم"؟ وهل نجتهد في مساحات الأتراك وساحاتهم، ونترك واجبنا تجاه بلادنا وقضايانا المعلّقة؟
تدفع هذه السمات في "العقلية العربية" إلى طرح مزيد من الأسئلة، من قبيل: لماذا يكتفي العرب المقيمون في تركيا بتأمين مطالبهم الحياتية، ويتناسون دورهم في إصلاح أحوال بلادهم وإحياء ثوراتهم المجهضة؟ وهل تعلمنا شيئاً من تجاربنا المريرة في الهجرة واللجوء؛ أم تعمّقت داخلنا، بمرور الوقت، مشاعر: "التطبيع مع الألم والفشل"، و"اللامبالاة السياسية"، المتعامدة مع السلبية والاتكالية، ونقص الثقة في القدرة على الإنجاز، والعجز عن إبداع نموذجٍ عربي في التنمية والتحول الديمقراطي.. إلخ؟ ومتى سندرك طبيعة العلاقة بين الداخل والخارج، وأن إحداث التغيير في بلادنا مرتبط أساساً بالاعتماد على الذات، مع عدم بناء رهاناتٍ غير واقعية على أطراف خارجية، سواء على تركيا أم غيرها، من القوى الإقليمية والدولية؟
تخصّ الملاحظة الثانية كتّاباً عرباً، يحرصون على إلصاق كلّ نقيصة بتجربة أردوغان، ولا ينفكّون عن تكرار ذلك في كل مناسبة انتخابية تركية، ويصمتون عن انتقاد أوضاع بلادهم، وخصوصاً مصر والسعودية، بوصفهما أكثر دولتين عربيتين مسؤولتين عن تردّي الحال العربي إلى هذا الحضيض.
لا مانع من انتقاد تركيا وسياساتها الداخلية والخارجية، بل وانتقاد نموذجها السياسي والثقافي برمته، لكن العيب أن يصف فريقٌ من "الدولتيين"، ومن "المطفّفين العرب" المنحازين لدولهم الفاشلة، ويكيلون بمكيالين، أردوغان "ديكتاتورا مستبدا" أو "سلطانا جديدا".. إلخ، في حين لا يُسمع لهم صوتٌ، إذا تعلّق الأمر بانهيار وضع الحريات، وتزايد الاعتقالات غير القانونية، وتدهور الاقتصاد، وظهور مشكلات المجتمعات وأزماتها، مع تزايد أعداد "الدول الفاشلة" في العالم العربي.
وتتعلق الملاحظة الثالثة بإهمال التمييز بين كليات "التجربة التركية" وتفاصيلها وجزئياتها، مع التركيز على رؤية ما نفتقده في أحوالنا عبر "مرآة تركيا"، من قبيل: وجود قياداتٍ منتخبة ومسؤولة أمام الشعب والبرلمان، تفهم نبض الشارع وتستجيب لمطالبه، وتقدر على اجتراح خطابٍ مناسب يُحرّك مختلف شرائح المجتمع، لكي ترتفع نسبة المشاركة السياسية، وهي أهم نتائج الانتخابات التركية قاطبةً.
على قوى المعارضة العربية أن تفكّر ملياً في سلوك مرشح حزب الشعب الجمهوري، محرم إنجه، الذي نجح، على الرغم من خسارته، في لفت الأنظار إلى قدراته قائدا محتملا للمعارضة، التي تواجه تحديات وأزمات جمّة. وكذلك ينبغي التأمّل في سلوك الرئيس السابق عبدالله غل، ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو؛ فعلى الرغم من معارضتهما الواضحة سياسات أردوغان، لم يحاولا أن يلعبا أي دور سلبي.
ويجب أيضاً أن يتوقف العرب عن "شخصنة" التجربة التركية، واختزال بنيتها الحزبية والمؤسسية، في شخص أردوغان، وعدم المبالغة في دور الفرد في تغيير المسار التاريخي للدول والأمم. وليس المقصود هنا التقليل من شأن تجربة تركيا، وفضلها في استقبال اللاجئين السوريين وسواهم، بل التذكير بأنها تبقى "خبرة بشرية، ونسبية، وهي ليست كاملة، ولا مثالية".
وينبغي أيضاً التأني قبل إصدار أحكام قطعية بشأن مسار تركيا المستقبلي، وشكل سياساتها الداخلية وعلاقاتها وتحالفاتها الخارجية، والتنّبه إلى أن المحاولة الانقلابية في يوليو/ تموز 2016 تركت تداعيات عميقة على المجتمع والدولة والإنسان (حملات إقالة الموظفين الرسميين بدعوى انتماءاتهم السياسية، وتضعضع تماسك القوى المحافظة/ المتدينة، وهيمنة
السلطة التنفيذية على غيرها، والتراجعات في سعر الليرة مقابل الدولار.. إلخ). ونجاح التجربة التركية لا يغني العرب عن إبداع نموذجهم السياسي/ الثقافي/ التنموي الخاص بهم، من موقع الندّ للأتراك، وليس التابع لهم. كما أن اهتمامنا بالشأن التركي لا يجب أن يشغلنا عن إصلاح الذات العربية، وإعادة ضبط تفكيرنا السياسي ليكون أكثر "منهجية وعلمية"، ذلك أننا نحتاج "فهماً نظرياً عربياً"، لتصحيح تصوراتنا عن ذاتنا، وعن الشأنين، الإقليمي والعالمي، وانعكاساتهما على مصالحنا وقضايانا.
باختصار، مطلوب "ثورة فكرية/ ثقافية"، تحيي دور مراكز الأبحاث والتفكير الاستراتيجية، والجامعات والمعاهد العلمية، والأكاديميين والمثقفين العرب، وتعيد للعلم والعلماء والباحثين مكانتهم واعتبارهم في طرح الرؤى المنظومية/ الشبكية، الكفيلة بتجاوز الضعف العربي الراهن، بعد إجهاض أحلام الشباب العربي في التغيير عبر الثورات المضادة والقمع المتزايد.
غاية القول، علينا تمحيص "التجربة التركية" نقداً وتفكيكاً، وتعلّم مميزاتها وترك سلبياتها. هذا إذا أردنا، نحن العرب، تطوير نموذجنا الخاص. وهو أمرٌ لا مناص منه، لمن أراد أن يبقى في عالمٍ يشهد تحولات جذرية وسريعة.
وقد يزيد هذا "القصور الإدراكي" من تأزّم القضايا العربية، خصوصاً بعد إجهاض "ثنائي إسرائيل – الديكتاتوريات العربية"، ثوراتِ الشباب العربي، الواعدة ديمقراطياً وسياسياً، في بداياتها الأولى، لكي نعود إلى "ثقافة سياسية معطوبة، تجترّ عيوبها القديمة/ الجديدة"، في إدراكها الذات والآخر. وإضافة إلى عَيبَي الانحياز والتحيز، مع "التجربة التركية" أو ضدها، ثمة ثلاث ملاحظاتٍ نقدية في تعامل العرب مع هذه التجربة.
الأولى أنه يهيمن على بعضنا نمطٌ من "التفكير بالتمنّي" (Wishful Thinking)؛ إذ يجري تحميل تركيا آمالَ العرب وإحباطاتهم في آن. مع تقصيرنا في "واجب الوقت"، تجاه ذاتنا ومشكلاتنا المزمنة. وبهذا المعنى، يصبح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي فاز من الجولة الأولى بنسبة تتجاوز 52%، وهَزمَ استطلاعات الرأي، فضلاً عن منافسيه الخمسة، حفيد السلطان محمد الفاتح أو وريثه. وهنا يصرُّ عوامُّ العرب، وجزءٌ من خاصّتهم وفقهائهم، على القيام بـ "إسقاطات غير منهجية"، على الصعيدين التاريخي والسياسي، على أردوغان وبلده، ويتم رفع سقف التوقعات في ما يمكن أن تقدمه أنقرة، لخدمة الشعوب العربية وثوراتها المغدورة، لا سيما الثورة السورية. .. هل ينمُّ ذلك عن "عقلية انتظار" لدينا نحن العرب، حين نكفّ عن الفعل، أو نكتفي بالحد الأدنى منه، بانتظار "المُنقذ المُخلِّص"، أو "الزعيم الملهم"؟ وهل نجتهد في مساحات الأتراك وساحاتهم، ونترك واجبنا تجاه بلادنا وقضايانا المعلّقة؟
تدفع هذه السمات في "العقلية العربية" إلى طرح مزيد من الأسئلة، من قبيل: لماذا يكتفي العرب المقيمون في تركيا بتأمين مطالبهم الحياتية، ويتناسون دورهم في إصلاح أحوال بلادهم وإحياء ثوراتهم المجهضة؟ وهل تعلمنا شيئاً من تجاربنا المريرة في الهجرة واللجوء؛ أم تعمّقت داخلنا، بمرور الوقت، مشاعر: "التطبيع مع الألم والفشل"، و"اللامبالاة السياسية"، المتعامدة مع السلبية والاتكالية، ونقص الثقة في القدرة على الإنجاز، والعجز عن إبداع نموذجٍ عربي في التنمية والتحول الديمقراطي.. إلخ؟ ومتى سندرك طبيعة العلاقة بين الداخل والخارج، وأن إحداث التغيير في بلادنا مرتبط أساساً بالاعتماد على الذات، مع عدم بناء رهاناتٍ غير واقعية على أطراف خارجية، سواء على تركيا أم غيرها، من القوى الإقليمية والدولية؟
تخصّ الملاحظة الثانية كتّاباً عرباً، يحرصون على إلصاق كلّ نقيصة بتجربة أردوغان، ولا ينفكّون عن تكرار ذلك في كل مناسبة انتخابية تركية، ويصمتون عن انتقاد أوضاع بلادهم، وخصوصاً مصر والسعودية، بوصفهما أكثر دولتين عربيتين مسؤولتين عن تردّي الحال العربي إلى هذا الحضيض.
لا مانع من انتقاد تركيا وسياساتها الداخلية والخارجية، بل وانتقاد نموذجها السياسي والثقافي برمته، لكن العيب أن يصف فريقٌ من "الدولتيين"، ومن "المطفّفين العرب" المنحازين لدولهم الفاشلة، ويكيلون بمكيالين، أردوغان "ديكتاتورا مستبدا" أو "سلطانا جديدا".. إلخ، في حين لا يُسمع لهم صوتٌ، إذا تعلّق الأمر بانهيار وضع الحريات، وتزايد الاعتقالات غير القانونية، وتدهور الاقتصاد، وظهور مشكلات المجتمعات وأزماتها، مع تزايد أعداد "الدول الفاشلة" في العالم العربي.
وتتعلق الملاحظة الثالثة بإهمال التمييز بين كليات "التجربة التركية" وتفاصيلها وجزئياتها، مع التركيز على رؤية ما نفتقده في أحوالنا عبر "مرآة تركيا"، من قبيل: وجود قياداتٍ منتخبة ومسؤولة أمام الشعب والبرلمان، تفهم نبض الشارع وتستجيب لمطالبه، وتقدر على اجتراح خطابٍ مناسب يُحرّك مختلف شرائح المجتمع، لكي ترتفع نسبة المشاركة السياسية، وهي أهم نتائج الانتخابات التركية قاطبةً.
على قوى المعارضة العربية أن تفكّر ملياً في سلوك مرشح حزب الشعب الجمهوري، محرم إنجه، الذي نجح، على الرغم من خسارته، في لفت الأنظار إلى قدراته قائدا محتملا للمعارضة، التي تواجه تحديات وأزمات جمّة. وكذلك ينبغي التأمّل في سلوك الرئيس السابق عبدالله غل، ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو؛ فعلى الرغم من معارضتهما الواضحة سياسات أردوغان، لم يحاولا أن يلعبا أي دور سلبي.
ويجب أيضاً أن يتوقف العرب عن "شخصنة" التجربة التركية، واختزال بنيتها الحزبية والمؤسسية، في شخص أردوغان، وعدم المبالغة في دور الفرد في تغيير المسار التاريخي للدول والأمم. وليس المقصود هنا التقليل من شأن تجربة تركيا، وفضلها في استقبال اللاجئين السوريين وسواهم، بل التذكير بأنها تبقى "خبرة بشرية، ونسبية، وهي ليست كاملة، ولا مثالية".
وينبغي أيضاً التأني قبل إصدار أحكام قطعية بشأن مسار تركيا المستقبلي، وشكل سياساتها الداخلية وعلاقاتها وتحالفاتها الخارجية، والتنّبه إلى أن المحاولة الانقلابية في يوليو/ تموز 2016 تركت تداعيات عميقة على المجتمع والدولة والإنسان (حملات إقالة الموظفين الرسميين بدعوى انتماءاتهم السياسية، وتضعضع تماسك القوى المحافظة/ المتدينة، وهيمنة
باختصار، مطلوب "ثورة فكرية/ ثقافية"، تحيي دور مراكز الأبحاث والتفكير الاستراتيجية، والجامعات والمعاهد العلمية، والأكاديميين والمثقفين العرب، وتعيد للعلم والعلماء والباحثين مكانتهم واعتبارهم في طرح الرؤى المنظومية/ الشبكية، الكفيلة بتجاوز الضعف العربي الراهن، بعد إجهاض أحلام الشباب العربي في التغيير عبر الثورات المضادة والقمع المتزايد.
غاية القول، علينا تمحيص "التجربة التركية" نقداً وتفكيكاً، وتعلّم مميزاتها وترك سلبياتها. هذا إذا أردنا، نحن العرب، تطوير نموذجنا الخاص. وهو أمرٌ لا مناص منه، لمن أراد أن يبقى في عالمٍ يشهد تحولات جذرية وسريعة.
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
أمجد أحمد جبريل
مقالات أخرى
04 نوفمبر 2024
31 أكتوبر 2024
29 سبتمبر 2024