24 أكتوبر 2024
هل هي ديمقراطية بلا ديمقراطيين؟
مع الملامح الأولى لتشكل النظام السياسي الجديد في تونس، إثر انهيار نظام الحزب الواحد وفرار الطاغية، بدأت تطرأ مشكلات جديدة، تتعلق بطبيعة الممارسة الحزبية في ظل التعدّدية السياسية التي تعرفها البلاد. وعلى الرغم من أن الدستور التونسي الذي صدر قبل ثلاث سنوات كان مؤشرا لمرحلة الجمهورية الثانية، فإن النخبة السياسية التونسية بدت أقل استيعابا لطبيعة المرحلة، ونمط التحول السياسي العام الذي عرفته البلاد. ويمكن توصيف هذا الوضع المتناقض، أو ما يمكن التعبير عنه بالمفارقة التونسية بين مشهد ديمقراطي تعدّدي يتسم بالتنوع ومجموعات حزبية وشخصيات سياسية لم تستوعب ما تستلزمه هذه التحولات من تطوير لمستوى الخطاب وأشكال الممارسة، فمن خلال مراقبة المشهد السياسي يمكن ملاحظة استمرار العقلية الإقصائية وحالة النوستالجيا لزمن الاستبداد التي تطبع جانبا كبيرا من النخب السياسية. ويمكن كشف طبيعة هذه التوجهات المضطربة وغير السوية في مواقف تبديها هذه القوى من مسألة الديمقراطية وجوهرها في الاعتراف بالتعدّد والتنوع.
لا تخفي شخصيات سياسية وكيانات حزبية ميلها إلى الأنظمة الاستبدادية. وهناك جملة من المواقف لا يمكن تفسيرها في غير هذا السياق، وإلا كيف يمكن فهم تأييد الجبهة الشعبية اليسارية الانقلاب المصري، حيث قال بيانها في 4 يوليو/ تموز 2013 إنها تسجل "بكلّ فخر واعتزاز انتصار الشعب المصري على النظام الإخواني، من خلال الإطاحة بالرئيس مرسي، وحكومته، ومجلس الشورى، والتعليق المؤقت للعمل بالدستور الذي فرضه على الشعب وقواه الديمقراطية والمدنية". وجاء ذلك الموقف في سياق الصراع ضد حكومة الترويكا في تونس حينها، ما يعني أن الجبهة الشعبية كانت ستهلل لأي انقلاب ضد خصومها السياسيين، وإقصائهم عن المشهد السياسي، من دون أدنى اعتبار للعملية الديمقراطية. ويثير هذا أكثر من سؤال بشان مدى إيمان الجبهة بالمشهد الديمقراطي التونسي.
ولم تنته مواقف قوى سياسية تونسية عند هذا الحد، بل تكرّرت زيارات نواب وحزبيين إلى دمشق، أعلنوا من هناك تأييدهم النظام الدموي الذي يقوده الأسد، وهو موقف يتجدد في مناسبات متعدّدة من نواب حاليين يعلنون، بصفاقة، تأييدهم النظامين، السوري والمصري. بل واندمج بعضهم ضمن سياق إقليمي عام لمحاربة الثورات العربية، واعتبارها مؤامرة دولية لتدمير الدول العربية، ما يطرح سؤالا: هل استفادة هؤلاء من وضع الحريات والمناخ التعددي
مجرد استخدام انتهازي للمرحلة قبل الانقلاب عليها؟ ووصل الحال إلى حد تصريح رئيس حزب آفاق، ياسين إبراهيم، لقناة محلية، أخيرا، عن تفهمه ما حصل في مصر، وقوله إن هناك ديمقراطية في البرلمان المصري، وعدة نجاحات اقتصادية في عهد عبد الفتاح السيسي. ولا يمكن تفسير هذا الأمر إلا بالنزعة الاستبدادية التي يستبطنها هذا الشخص، على الرغم من أنه أحد أهم المستفيدين من الوضع الديمقراطي التونسي، فقد تقلد مناصب وزارية لم يكن ليحلم بها زمن بن علي، بل ولم يكن لأمثاله أدنى فرصة حتى لدخول معترك العمل السياسي، وهو الذي لم يُعرف عنه قبل الثورة أي نشاط حزبي، أو معارضة لنظام الطغيان.
وتتراوح هذه المواقف المتعددة لنواب ومسؤولين حزبيين من قوى مختلفة بين الجبهة الشعبية اليسارية وصولا إلى حزب آفاق الليبرالي المفترض مرورا بمشروع تونس. وهي تكشف عن حالة من الفصام السياسي بين زعم هؤلاء المطالبة بالحريات العامة ودعمهم أنظمة استبدادية مظلمة، بصورة تعبّر عن انتهازية في التعامل مع الديمقراطية التونسية الناشئة. وإذا أضيف الى هذه المكونات مجموع القوى الحزبية التي تمثل امتدادا لنظام الاستبداد المنهار، ولا تكفّ عن الحنين إلى زمن الطاغية، بل وتتوعد خصومها السياسيين بالإقصاء والسحق (وعيد رئيسة الحزب الدستوري الحر بحل حزب النهضة)، يمكن فهم سبب عجز الديمقراطية التونسية عن التقدّم بشكل ثابت نحو بناء مؤسساتها، وترسيخ أقدامها بشكل متسارع، فقوى حزبية ومجموعات سياسية كثيرة تتصرف بعقلية استبدادية، ولم تستوعب التحول السياسي الكبير الذي عبّرت عنه الثورة التونسية من خلالها في دستورها القائم على التعدّدية، وضمان الحقوق والحريات، وبناء دولة القانون، وإقرار مبدأ التداول على السلطة في شكل سلمي، بعيدا عن الفكر الانقلابي.
غير أن هذا لا ينفي وجود قوى مدنية وحزبية تؤمن بالتعدّد، وتنشط ضمن مقتضيات الديمقراطية التي تؤمن بها، وتعتبرها السبيل الأمثل لبناء حياة سياسية سليمة. بعضها متشكل حزبيا وله تمثيليته البرلمانية، والقسم الأكبر منها وإن كان خارج الانتظام الحزبي، إلا أنه يتشكل ضمن الرأي العام الشبابي الذي فجّر الثورة، ويدرك صعوبات المرحلة، ويناوئ السلطة في خياراتها، لكنه يؤمن بالحرية والتعدّدية، ولا يجعل الاستبداد خيارا ممكنا. وهؤلاء هم الرصيد الحقيقي للثورة التونسية، والضامن الفعلي لعدم الارتكاس نحو النزعات الاستبدادية، مهما كانت خلفياتها أو حساباتها، بعيدا عن السياسيين المثقلين بطبائع الاستبداد، أو مرضى السلطة ممن لديهم استعداد لتدمير حلم شعبٍ بأكمله، خدمة لطموحات فردية، تتقاطع مع حسابات إقليمية معادية للحرية.
لا تخفي شخصيات سياسية وكيانات حزبية ميلها إلى الأنظمة الاستبدادية. وهناك جملة من المواقف لا يمكن تفسيرها في غير هذا السياق، وإلا كيف يمكن فهم تأييد الجبهة الشعبية اليسارية الانقلاب المصري، حيث قال بيانها في 4 يوليو/ تموز 2013 إنها تسجل "بكلّ فخر واعتزاز انتصار الشعب المصري على النظام الإخواني، من خلال الإطاحة بالرئيس مرسي، وحكومته، ومجلس الشورى، والتعليق المؤقت للعمل بالدستور الذي فرضه على الشعب وقواه الديمقراطية والمدنية". وجاء ذلك الموقف في سياق الصراع ضد حكومة الترويكا في تونس حينها، ما يعني أن الجبهة الشعبية كانت ستهلل لأي انقلاب ضد خصومها السياسيين، وإقصائهم عن المشهد السياسي، من دون أدنى اعتبار للعملية الديمقراطية. ويثير هذا أكثر من سؤال بشان مدى إيمان الجبهة بالمشهد الديمقراطي التونسي.
ولم تنته مواقف قوى سياسية تونسية عند هذا الحد، بل تكرّرت زيارات نواب وحزبيين إلى دمشق، أعلنوا من هناك تأييدهم النظام الدموي الذي يقوده الأسد، وهو موقف يتجدد في مناسبات متعدّدة من نواب حاليين يعلنون، بصفاقة، تأييدهم النظامين، السوري والمصري. بل واندمج بعضهم ضمن سياق إقليمي عام لمحاربة الثورات العربية، واعتبارها مؤامرة دولية لتدمير الدول العربية، ما يطرح سؤالا: هل استفادة هؤلاء من وضع الحريات والمناخ التعددي
وتتراوح هذه المواقف المتعددة لنواب ومسؤولين حزبيين من قوى مختلفة بين الجبهة الشعبية اليسارية وصولا إلى حزب آفاق الليبرالي المفترض مرورا بمشروع تونس. وهي تكشف عن حالة من الفصام السياسي بين زعم هؤلاء المطالبة بالحريات العامة ودعمهم أنظمة استبدادية مظلمة، بصورة تعبّر عن انتهازية في التعامل مع الديمقراطية التونسية الناشئة. وإذا أضيف الى هذه المكونات مجموع القوى الحزبية التي تمثل امتدادا لنظام الاستبداد المنهار، ولا تكفّ عن الحنين إلى زمن الطاغية، بل وتتوعد خصومها السياسيين بالإقصاء والسحق (وعيد رئيسة الحزب الدستوري الحر بحل حزب النهضة)، يمكن فهم سبب عجز الديمقراطية التونسية عن التقدّم بشكل ثابت نحو بناء مؤسساتها، وترسيخ أقدامها بشكل متسارع، فقوى حزبية ومجموعات سياسية كثيرة تتصرف بعقلية استبدادية، ولم تستوعب التحول السياسي الكبير الذي عبّرت عنه الثورة التونسية من خلالها في دستورها القائم على التعدّدية، وضمان الحقوق والحريات، وبناء دولة القانون، وإقرار مبدأ التداول على السلطة في شكل سلمي، بعيدا عن الفكر الانقلابي.
غير أن هذا لا ينفي وجود قوى مدنية وحزبية تؤمن بالتعدّد، وتنشط ضمن مقتضيات الديمقراطية التي تؤمن بها، وتعتبرها السبيل الأمثل لبناء حياة سياسية سليمة. بعضها متشكل حزبيا وله تمثيليته البرلمانية، والقسم الأكبر منها وإن كان خارج الانتظام الحزبي، إلا أنه يتشكل ضمن الرأي العام الشبابي الذي فجّر الثورة، ويدرك صعوبات المرحلة، ويناوئ السلطة في خياراتها، لكنه يؤمن بالحرية والتعدّدية، ولا يجعل الاستبداد خيارا ممكنا. وهؤلاء هم الرصيد الحقيقي للثورة التونسية، والضامن الفعلي لعدم الارتكاس نحو النزعات الاستبدادية، مهما كانت خلفياتها أو حساباتها، بعيدا عن السياسيين المثقلين بطبائع الاستبداد، أو مرضى السلطة ممن لديهم استعداد لتدمير حلم شعبٍ بأكمله، خدمة لطموحات فردية، تتقاطع مع حسابات إقليمية معادية للحرية.