هل فقدت الحكومة التونسية رصيدها الأخلاقي؟
في خطابه أمام البرلمان لنيل الثقة لحكومته (28 مارس/ آذار 2020)، أكد إلياس الفخفاخ على التأكيد أن محاربة الفساد ستكون الأولوية التي سيعمل لأجلها. كان الخطاب جذابا يدغدغ مشاعر الجمهور التونسي العريض، خصوصا في ظل استشراء شبهات الفساد إبان حكومة يوسف الشاهد المنصرفة. ومن الناحية النظرية، كان الرهان على رمزية المعركة ضد الفساد وكل أشكال التربّح توجها دعائيا ناجحا لرئيس حكومةٍ جاء من خارج الأحزاب البرلمانية، ولا يملك رصيدا شعبيا بقدر ما تم فرضه وفق خيارات دستوريةٍ ضمن ما تسمّى حكومة الرئيس.
وبعد مائة يوم من تشكيلها، تحدث الفخفاخ عن خيارات حكومته أمام البرلمان، وبعيدا عن المزايدات اللفظية، لم يكن الرجل قادرا على الإقناع، وجاء خطابه مجرّد توصيفٍ لوضع اقتصادي متدهور، خصوصا بعد الآثار السلبية لجائحة كورونا، وتوقف النشاط الاقتصادي أو على الأقل انحساره إلى الحد الأدنى، وانهيار قطاعاتٍ تعتمد على الخارج، مثل السياحة. ولهذا لم يكن الرأي العام يتوقع إنجازا اقتصاديا من الحكومة بعد مائة يوم.
سواء بقيت حكومة الفخفاخ أو رحلت، فإنها لم تعد قادرةً على تسويق ذاتها إعلاميا
المشكل أن الخطاب التهويلي لرئيس الحكومة (وهو مبني على وقائع) لم يتضمّن ما يكفي من التطمينات للشارع، من خلال وضع خطط إنقاذ اقتصادي عاجلة. وإذا استثنينا مبالغة رئيس الحكومة في تصوير المعونات الاجتماعية زمن الحجْر الصحي إنجازا، بالإضافة إلى الحد من انتشار المرض، فمن الصعب القول إن هناك نجاحا في الإدارة الحكومية للأزمة، وهو ما يفسّر محاولة الاستدراك اللاحق في حواراتٍ إعلاميةٍ، حاول من خلالها الفخفاخ الحديث عما سمّاه الشروع في العمل على الرفع من مؤشرات النمو والاقتصاد وتحريك الاستثمار، مبرزا أن خطة الإنقاذ الاقتصادي المبرمجة للسنوات الخمس المقبلة تقوم على إيقاف العمل بسياسة التداين الخارجي من ناحية، وعدم المساس بميزانية التنمية من ناحية أخرى.
غير أنه بعيدا عن التصريحات الإعلامية، تعرّضت الحكومة لهزّاتٍ أفقدتها رصيدها الرمزي لدى الشارع، وحوّلتها إلى موقع المتهم الذي تحيط به الشبهات. هذه الحكومة عندما بدأت مشاورات تشكيلها رفعت شعار محاربة الفساد، وأنها لا تضم في صفوفها الفاسدين. وكان المبرّر الوحيد لإبعاد حزب قلب تونس، برئاسة نبيل القروي، اتهام مؤسسه بأنه فاسد. لم يكن خلافا في البرامج ولا التوجهات، ولا حتى الخطاب (من يسمع الفخفاخ كأنما يسمع القروي في حديثهما عن التكنولوجيا واللغة المشحونة بالمنطق التجاري المالي). ومن هنا كانت ردّة فعل الشارع التونسي لا تخلو من صدمةٍ مع تسرّب أنباء ما ستعرف بصفقة الكمامات التي تورّط فيها أحد رجال الأعمال، وهو نائب في البرلمان، ما أثار شبهات واسعة عن استفادته من موقعه للتربّح. وكان موقف رئيس الحكومة مخففا من وقع الأزمة، بل واعتبرها مسألة لا تستحق كل ما أثارته من جدل لدى الرأي العام. ربما كان الأمر سيمر باعتباره حدثا جانبيا ناجما عن سوء تقدير في الأداء الوزاري، لولا تفجر مشكلة تضارب المصالح التي أصبح بطلها رئيس الحكومة ذاته.
تعرّضت الحكومة لهزّاتٍ أفقدتها رصيدها الرمزي لدى الشارع، وحوّلتها إلى موقع المتهم الذي تحيط به الشبهات
واقعيا من الصعب أن تكون رجل أعمال لديه مصالح اقتصادية مع الدولة، وفي الوقت نفسه، تتقلد مناصب رفيعة في أجهزتها، من دون أن تكون هناك شبهة استفادة من الموقع. والأشد صعوبةً حينما تكون رئيس حزبٍ يدّعي أنه من اليسار الاجتماعي، ويحارب الفساد والفقر والمحسوبية، فيما يمارس رئيسه نشاطه الاقتصادي ضمن شروط اقتصاد السوق القائم على المصلحة، وبشكله الأكثر رأسماليةً، بما ينافي الشعارات التي يسوّقها للناس، فالشركات التي يملك رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ بعضا من أسهمها، أو يتولى مناصب تنفيذية في مجالس إداراتها، قد استفادت بشكل واضح من عقود مع الدولة في أثناء وجوده في منصبه في أهم منصب تنفيذي في البلاد، وهو ما ساهم في تصاعد قيمة أسهمها في السوق، وحقق لها أرباحا مالية ضخمة في مدة وجيزة. ومن هنا جاءت دعوة رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد إلى فسخ عقود هذه الشركات مع الدولة، واعتبر أن إلياس الفخفاخ خالف القانون.
وبغض النظر عن نتائج التحقيقات التي تجري في اتجاهات مختلفة، سواء التي يتولاها القضاء أو اللجان البرلمانية، أو حتى التقرير الذي تعدّه الحكومة في الغرض، فإن ما جرى أصاب الحكومة في مقتل، من حيث رمزيتها وشعاراتها عن محاربة الفساد. وسواء بقيت حكومة الفخفاخ أو رحلت، فإنها لم تعد قادرةً على تسويق ذاتها إعلاميا، والأخطر أنها لن تقدر مستقبلا على فتح ملفات شائكة، يحوطها الغموض لبعض المتنفذين من أصحاب المصالح. ولأن أي محاولةٍ من هذا القبيل ستظهر في صورة تصفية الحسابات، والتنازع على الاستفادة من النفوذ، وهو أمر خبره التونسيون من ممارساتٍ سابقة في حكومة يوسف الشاهد، عندما أعلن حربا على الفساد، كانت الغاية منها تحجيم بعض رجال الأعمال في مقابل منح الفرصة لآخرين للاستفادة منهم سياسيا.
إلى متى ستستمر في تونس حالة التخبط السياسي والخيارات الفاشلة في ظل التجاذب الحزبي وغياب التضامن الحكومي وفوضى البرلمان والعجز الرئاسي المزمن؟