هل تعود الدولة البوليسية في تونس؟
ربما كان الكسب الأساسي للثورة التونسية تخلصها من الوطأة الثقيلة للدولة البوليسية التي أسس لها نظام بن علي، طوال نحو ربع قرن، فقد كان النظام حينها يتمركز حول المؤسسة الأمنية، ذات اليد الطولى في مراقبة كل شاردة وواردة في البلاد، تأخذ الناس بالشبهة، وتعتقل على النيات، وتشكل كابوساً حقيقياً للمواطن التونسي، باعتبارها تتدخل في كل الجوانب الحياتية المتعلقة به، بداية من استخراج الوثائق الرسمية، حيث يتم حرمان المغضوب عليهم من جوازات السفر، وصولاً الى تقديم تقارير قد تحرم طالب الشغل من الالتحاق بالوظائف الرسمية في أجهزة الدولة، بالإضافة إلى مطاردة الناشطين السياسيين والحقوقيين، ومنع كل أشكال المعارضة ضد السلطة القائمة. وعلى الرغم من تعدد أجهزة نظام بن علي، وتشابكها، وتداخل ما هو أمني مع ما هو سياسي، إلا أن كل هذه المنظومة لم تكن مجدية لمنع الناس من الخروج إلى الشارع، وإطاحة رأس النظام، يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011.
وعندما اندلعت الثورة، كان واضحاً مدى الانفصال بين الشارع والمنظومة الأمنية، وهو أمر تجسد في حرق مراكز الشرطة، والصراعات العنيفة التي حصلت بين جموع المتظاهرين والقوى الأمنية، وكان أحد المطالب الأساسية لجمهور المواطنين إلغاء الرقابة البوليسية، وبسط مجال الحريات، وفتح الباب أمام الحق في التعبير والممارسة السلمية في المجال السياسي، وهو ما تحقق بشكل واضح في السنة الأولى من عمر الثورة.
وحاولت حكومة الترويكا الحفاظ على هذا المكسب، غير أن جملة عوامل جعلت المقاربة الأمنية تعود من جديد إلى المشهد، بقبضتها الشديدة، خصوصاً بعد انسحاب الأمن من الشارع، في أثناء الأشهر الاولى للثورة، وهي فترة جعلت المواطن التونسي يشعر بالحاجة إلى حضوره، خصوصاً في مواجهة الجريمة، وربما شكل حدث محاولة اقتحام السفارة الأميركية لحظة مفصلية في عودة النظام الأمني إلى العمل بصورته القديمة، أعني بوصفه رقيباً على المشهد برمّته. وستتعزز الحاجة إلى القبضة الأمنية، بعد تصاعد موجة الإرهاب، بعملياته المتفرقة التي طالت سياسيين (اغتيال الأمين العام لحركة الوطنيين الديمقراطيين، شكري بلعيد، وعضو المجلس التأسيسي في حينه، محمد البراهمي)، وألحقت الأذى بمصالح الناس في مناطق مختلفة من البلاد. وإذا كان من الطبيعي أن يتحرك الجهاز الأمني لمراقبة العناصر المشبوهة، والقيام بعمليات استباقية ضد كل من يشتبه في علاقته بالعنف، أو بالجماعات المتشددة، غير أن جملة أحداث تفيد بأن منطق المحاكمات السياسية، وعلى خلفية قضايا الرأي، بدأ يأخذ موقعه من المشهد السياسي التونسي.
وإذا كان من المعروف أن الحزب الفائز في الانتخابات الأخيرة، "نداء تونس"، قد رفع شعارات مكافحة الإرهاب والتركيز على الملف الأمني، فإن المحاكمات التي طالت ناشطين ومدونين تنبئ بملامح عودة ممارسات قمعية، فالحكم القاسي الذي طال المدون ياسين العياري (تم إيداعه السجن على خلفية تدوينات اعتبرت مساً بالروح المعنوية للمؤسسة العسكرية). بالإضافة إلى ما تم، أخيراً، من اعتقال ناشطين شبان في إطار ما تعرف بالقرصنة الإلكترونية التي طالت مواقع إسرائيلية، وأخرى غربية، في إطار مجموعة تسمي نفسها "الفلاقة"، تدل على أن الرغبة في التغول الأمني لازالت كامنة في بعض أذرع الجهاز الأمني التونسي. كما أن التعامل العنيف مع الاحتجاجات التي شهدتها مناطق في الجنوب التونسي، أخيراً، والتي أفضت إلى مقتل أحد الشباب، تكشف عن استعداد نفسي لدى عناصر بوليسية لممارسة العنف، وأن الإصلاح الذي لحق المؤسسة الأمنية لم يلامس بنيتها العميقة، على الرغم من كل ما يقال عن تحول الأمن إلى أمن جمهوري، ينضبط للقانون والدستور. وتشهد المؤسسة الأمنية ذاتها تجاذباً داخلياً حاداً، خصوصاً بين بعض النقابات الأمنية المسيسة والأخرى التي تكتفي بدورها المهني، حيث أصبحت التصريحات الإعلامية ميداناً للتراشق بالتهم والتشكيك في الداء الأمني، وهو ما يستلزم اتخاذ خطوات حاسمة وفعلية، لوقف مثل هذه المهاترات العلنية التي تؤثر في الرأي العام.
إن إعادة تشكل الأجهزة الأمنية من أجل استعادة نفوذها وسيطرتها على المجتمع هي جزء من استعادة الدولة العميقة أنفاسها، بعد وصول حكومة التكنوقراط إلى الحكم، ومن ثم فوز حزب نداء تونس، وعلى الرغم من أن المشهد السياسي والإعلامي في تونس لازال يتمتع بهامش كبير من الحريات، إلا أنها تثير المخاوف استمرارية الممارسات وتطورها طوال الخمس سنوات المقبلة، تحت مبررات كثيرة، أبرزها مكافحة الإرهاب، مما قد يفضي، في النهاية، إلى عودة الدولة البوليسية بصورتها الكريهة. وإن فرضية عودة الدولة البوليسية، بصورة تدريجية، تظل إمكانية قائماً، تحت شعار استعادة هيبة الدولة، وترسيخ سلطة الوافدين الجدد إلى الحكم، ومحاولة تخيير المواطن بين الأمن والحرية بصورة فجة، لدفعه إلى التنازل عن جملة الحريات التي تحققت منذ نجاح الثورة التونسية، وربما كان الضامن الوحيد ضد كل محاولة للارتداد إلى زمن الاستبداد وعي المواطن التونسي، أولاً، ثم الانتشار الواسع للمنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية التي تقوم بجهد واضح في كشف كل انتهاك ممكن لمنظومة الحقوق والحريات، من دون أن يعني هذا استبعاداً لإمكانية حصول تجاوزات وانتهاكات لحقوق المواطن، مهما كانت خلفيتها، سياسية أو اجتماعية.