ليست الرومانسية في الأدب العربي مجرّد محاكاة لما فكر به، أو كتبه من شعر وقصّة وتأمّلات الكتّاب في الغرب... يمكنك أن تجد كثيراً من الكتّاب أو النقّاد العرب يردّدون كلاماً من هذا القبيل. ولن تكون أي فكرة أُخرى يتم الإيمان بها، نقلاً، أو نسخاً.
وفي الغالب فإن أنصار العزلة، أو أدعياء الأصالة التي تحتوي في بنيتها نزعات عنصرية، هم من يمكن أن يدّعوا أنّ الثقافة، أيّ ثقافة، نقية تماماً. فالثورة ضد الظلم والاستغلال ليست محاكاة للثورات مثلاً، بل هي موقف إنساني يشمل البشر المظلومين في أي بقعة من بقاع الأرض. والمطالب الأخلاقية، لم تضعها ثقافة بلد دون الآخر، بل يمكن أن يكون قد صاغها صياغة صحيحة ومتينة هذا المفكّر أو ذاك من هذه الثقافة أو تلك. ولهذا فأنت تتبنّى قيم الحق والخير والعدالة والمساواة، التي هي قيمك، ولا تستوردها من أي خارج. أمّا الاسم فهو استعارة مناسبة لوصف هذا الاتجاه الذي مثّله العشرات من الكتّاب العرب.
ليست الرومانسية نقلاً للأفكار إذن، بل هي تعبير أصيل عن رؤية وموقف لتيار كبير ومؤثّر في تاريخ الأدب العربي الحديث. فمن جبران خليل جبران إلى إلياس أبو شبكة إلى عبد الباسط الصوفي الشاعر السوري شبه المجهول وغيرهم بالطبع، أسّست الرومانسية العربية اتجاهاً في الشعر والقصّة كان له ذات يوم أثر كبير في الوجدان الحي للعرب.
معظم الدراسات التي قاربت الرومانسية (ولها تعريب متباين بحسب اللغة التي عُرّبت عنها أو بحسب اجتهاد المعرّب مثل الرومانتيكية، أو الرمانطيقية، أو الرومانتية) في الأدب العربي، ربطت بين النشأة، وبين الواقع الاجتماعي، إذ إنها كاتجاه إنما كانت تعبّر عن مسعى وفكر ووجدان الطبقات الاجتماعية الناهضة في المجتمع العربي في بدايات ومنتصف القرن العشرين.
من الحماسة لكل شيء والتغنّي بالطبيعة والإنسان، إلى اليأس الكلّي
كانت الرومانسية العربية تعبيراً عن الأمل في التغيير الذي وُعد به الناس في منتصف القرن الماضي، وكان جبران خليل جبران ينشد: "أعطني الناي وغنِّ"، لكن فشل القوى الاجتماعية التي راهنت عليها، مضى بشعرائها وكتّابها إلى ذلك الإحساس بدمار العالم.
يمكن للشاعر السوري عبد الباسط الصوفي أن يكون الأكثر تمثيلاً للمصائر "النموذجية" التي حاقت بهذا الاتجاه كلّه؛ فمن الحماسة لكل شيء، والتغنّي بالطبيعة والإنسان، وإلى اليأس الكلي، و"الغربة الروحية، والتعبير عن الحرمان والفشل في الحب"، كان الشاعر يكتب الشعر، حتى إنه ملأ ديواناً كبيراً، نشرته له وزارة الثقافة السورية عام 1961 بعد انتحاره في غينيا حيث كان مغترباً.
وإذا كان قد نُسي (حتى أن الدراسة الوافية التي وضعها عنه الشاعر السوري ممدوح سكاف، لم تستطع إعادة التعريف به من جديد، كما تم التعريف بأقرانه من شعراء الرومانسية في الثقافة العربية)، فإننا يمكن أن نعزو ذلك إلى هزيمة الرؤية أو العالم الشعري الذي بنته الرومانسية على الرمال أو كما قال هو نفسه: "أنا يا رمال على السراب أجوب أعماقي البعيدة/ أنا في سحيق الوهم انتزع المدى صوراً شريدة".
* روائي من سورية