هبّتا القدس والأقصى: انهيار وهم الأسرلة

30 سبتمبر 2014
ثبّتت الهبّة الهوية الوطنية الفلسطينية (فرانس برس)
+ الخط -
شكّلت هبة القدس والأقصى في الداخل الفلسطيني عام 2000، حدثاً مفصلياً في تاريخ الداخل المحتل، على مستوى العلاقة مع الإسرائيليين، إذ كسرت نهائياً كل محاولات الأسرلة ووهمها الذي كان بدأ يتغلغل في المجتمع الفلسطيني بترويج وتشجيع من حركات فاعلة في الداخل الفلسطيني. وصوّرت الأسرلة على أنها تحصيل حاصل لكل اتفاق تقبل به القيادة الفلسطينية مع إسرائيل، استمراراً لإعلان المبادئ في أوسلو، وإغلاقاً للأفق السياسي أمام الفلسطينيين في الداخل، ليصبحوا شأناً إسرائيلياً داخلياً.

أما على المستوى الثاني، فقد ساهمت الهبّة في رفض الخيار الوحيد المتاح أمام الفلسطينين في الداخل، بأن يبقوا "مواطنين" في حدود ضيقة رسمتها المؤسسة الإسرائيلية.

وأفضى ذلك إلى تحركات وتحالفات داخلية بين قوى فلسطينية مختلفة تُوِّجَت بتأسيس "التجمّع الوطني الديمقراطي"، كتيار قومي يطرح معادلة دولة المواطنين، مع التأكيد على الهوية القومية والوطنية للفلسطينيين في الداخل، وسعي لكسر آليات السيطرة والهيمنة الصهيونية في إسرائيل.

وظلّت قوى تقليدية مثلها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، و"القائمة الموحّدة" تراوح في خانة القبول بكل ما تقبله القيادة الفلسطينية على صعيد الحل الدائم للقضية الفلسطينية، والقبول بكون فلسطينيي الداخل "شأن إسرائيلي يتعين عليه ألا يغادر حدود اللعبة السياسية الداخلية، وألا يغضب قطاعات واسعة في المجتمع الإسرائيلي تريد السلام وترحب بالتعايش مع العرب في الداخل".

والواقع، أن كسر وهم الأسرلة وتثبيت الهوية، وإن جاء مكملاً لتراكمات سابقة، لكنه رسخ بشكل واضح السلوك الجمعي للفلسطينيين في الداخل بعد أيام المواجهات والصدامات، التي أوقعت 13 شهيداً، بعضهم سقطوا برصاص القناصة ومن على مسافة بعيدة.

فقد رفض الفلسطينيون في الداخل محاولات السلطة الإسرائيلية الالتفاق على جرائمها في الهبّة، عبر تشكيل لجنة فحص غير رسمية اقترحها وزير العدل آنذاك، يوسي بيلين. كما رفضوا التعاون مع اللجنة ما دفع بالحكومة ورئيسها إيهود باراك، إلى الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق رسمية برئاسة قاض.

بالرغم من أن بعض القوى حاولت في غضون تلك الفترة، القبول باللجنة باعتبارها إنجاز، فإن المجتمع الفلسطيني كان موحداً ضدها.

وواظب فلسطينيو الداخل على التصرف، كشعب وكجماعة قومية في مواجهة محاولات أطراف سياسية إسرائيلية كاليسار، دعت إلى استعادة الحوار والعودة لـ"التعايش" من جديد من دون تقديم ومحاسبة المجرمين، وكأن ما حدث مجرد شجار عابر. وبلغ هذا السلوك ذروته، عند مقاطعة الفلسطينيين في الداخل، بعد عام تقريباً من "هبة أكتوبر"، للانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، التي نافس فيها باراك، آرييل شارون، وانتهت بفوز الأخير.

قاطع الفلسطينيون بشكل شبه تام هذه الانتخابات رغم محاولات الحزب الشيوعي، ولو على استحياء، دعوتهم التصويت لباراك، بينما كان التيار القومي بقيادة عزمي بشارة، والحركة الإسلامية بقيادة رائد صلاح، و"القائمة الموحّدة"، قد دعوا إلى المقاطعة، ففي كل ما يتعلق بالفلسطينيين في الداخل، لا فرق جوهري بين نظرة حزب "العمل" وباراك، وبين نظرة "الليكود" وشارون.

كل ذلك، دفع بالحكومات الإسرائيلية، وما يتبعها من مؤسسات بحثية ووسائل إعلام وأكاديميين، بينهم عرب، إلى محاولات تفسير الهبّة بغير حقيقتها ونسبها. أرجعت تلك التفسيرات، هبّة الفلسطينين، بحسب بشارة، إلى "الإهمال الذي تعرضوا له في الداخل من حكومات إسرائيل على مر السنين، فضلاً عن استغلال بعض القوى السياسية العربية هذه الحالة، لتحريض الناس سياسياً ضد الدولة".

ويخلص في رصده إلى أن الاستنتاج الإسرائيلي الرسمي كان بضرورة "عزل السياسيين المتطرفين جماهيرياً" وهو ما ترجمته المؤسسات الإسرائيلية بملاحقة تيار بشارة، ولاحقاً تيار الحركة الإسلامية على ضوء نشاطها الأخير في موضوع المسجد الأقصى ومقدساته.

في مطلق الأحوال، كسرت هبّة القدس والأقصى والسلوك الذي اتخذه الفلسطينيون في الداخل، وهم الأسرلة ووهم التبعية المطلقة لليسار الإسرائيلي التقليدي. وثبتت الهوية الوطنية الفلسطينية والامتداد القومي مع العالم العربي، وصاغت وعياً فلسطينياً جديداً تمثل مع الوقت بازدياد قوة التيار القومي في الداخل، وترسيخ الخطاب وانتماء الفلسطينيين لجيل كامل كانت مخاطر الأسرلة تحيق به، بعد أن بلغت حداً شبّه فيه رئيس لجنة المتابعة في أوساط التسعينيات، شوقي خطيب، من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، رئيس وزراء إسرائيل، إسحاق رابين بعد مقتله بأنه كـ"البدر الذي يفتقد في الليلة الظلماء".

اليوم تبدو تداعيات الهبّة، كبذور زُرعت ونمت في نفوس الجيل الشاب الذي لم يبقَ مستكيناً، لا في العام الماضي، عندما سعت حكومة نتنياهو لتطبيق مخطط برافر لترحيل أربعين ألف فلسطيني من النقب عن أراضيهم، ولا مع العدوان الأخير على غزة، ولم يتردد في النزول للشارع والخوض في مواجهات مع الشرطة الإسرائيلية وإغلاق الطرقات والشوارع الرئيسية بما في ذلك في مدن مثل حيفا.

المساهمون