استمد الفن الأوروبي معظم مواضيعه في القرون الوسطى من القصص الدينية، وكانت الكنائس فضاءات يتنافس الفنانون على الوصول إليها، وغاية الفنان أن يطلب منه تقديم عمل إلى الكنيسة.
هكذا بات ممكناً حين نتابع زمنياً ما رُسم في الكنائس أن نرصد ما طرأ على أدوات الرسم ومنظور العمل ورؤية الفنان مع تطوّر الفن نفسه. لكن بعد قرون، يمكن التساؤل هل توقف تطوّر هذا الجانب من الفن خصوصاً وأن التشكيل أصبحت له فضاءات متنوعة لم تعد الكنائس في طليعتها؟
بالنظر إلى أعمال الفنان النرويجي هاكون غولفاغ (1959) ستكون الإجابة بالنفي، إذ قدّم تصوّراً جديداً للوحات المذبح الثلاثية الألواح بطريقة معاصرة وصادمة وغرائبية، سنجد نسخة القرن الواحد والعشرين من "تعميد المسيح" بطريقة تذكرنا بمفردات عمل بييرو ديلا فرانسيكسا من القرن الخامس عشر.
أعمال غولفاغ منتشرة في الكنائس والقصور والمتاحف وأهم الغاليريهات حول العالم، ولو فتشنا عن صور لمحترفه في أوسلو، سنجد شقة مأهولة باللوحات الضخمة والصغيرة، ونرى فيها عملاً ضخماً يبدو كما لو أنه جدار داخل كاتدرائية على غرار فنون القرون الوسطى، لكنه بروح العصر الحديث.
ليس هذا فقط، بل إن غولفاغ رسام بورتريهات أيضاً، وكأنه غويا في العصر الحديث يسعى إليه ملوك وأرستقراطيون كي يرسمهم، وقد فعل لبعض منهم، فقدم بورتريهات غير تقليدية لملوك وأمراء ومثقفين وحتى مسؤولين في الصين.
يحلّ غولفاغ في بيروت، عبر معرض يقيمه حالياً في مخيم شاتيلا، متبرعاً باللوحات لدعم أطفال المخيم، كما يلقي محاضرة في "دار النمر للفن والثقافة"، عند السادسة من مساء الجمعة، 15 من الشهر الجاري. وكان الفنان النرويجي قد أقام معرض "الأرض المقدسة" في بيروت لأطفال غزة، عام 2009، وتضمّن أعمالاً تشبه ألواح المذبح بتقنيتها الثلاثية منها "اجتياح" التي لا تخلو من رموز الافتداء والأمومة، وكذلك عرض آنذاك لوحة "طيور غزة" التي تذكّر بجداريات عالمية تناولت الحرب والضحايا، و"قداس لراحة أطفال غزة"، إلى جانب رسمه لوحة على جدار الفصل العنصري في فلسطين المحتلة.
يرسم غولفاغ في مواضيع متعددة، ولديه تلك المخيلة المرتبطة بالسوريالية وعبث الطفولة ولا معقولية الواقع وإمكانيات الخيال، أحياناً يمكن أن يذكرنا بتلك الرمزية الرافائيلية وأحياناً يمكن أن يسحب خيطاً من لوحة لغويا أو وجهاً مشوّهاً من عمل لبيكون، ويضم إليه خيطاً من رواية دون كيخوته أو أليس في بلاد العجائب وينسج من الاثنين لوحة خاصة بغولفاغ.
من أعماله الاستثنائية "حارسا السر"، وفيه جنديان يحرسان ما يظهر أنه زرافة نافقة، أو "بورتريه لفارس" وفيه نرى فارس ثيربانتيس في عصرنا على صهوة جواد، ويمكننا أن نرى أحشاءه وهو ينظر إلينا بحياد، أما عمله "الطيّار الأول" فيجسّد فيه الإنسان يركب عصفوراً في لوحة تبدو ملطخة بعناصرها وليست مرسومة بها.