خلال جولة "العربي الجديد" في إيطاليا، ومن جنوبها إلى شمالها، كان من المستحيل أن نغضّ الطرف عن تجارب في الصمود والدفاع عن إنسانية الإنسان، مدفوعة بروحيّة التسامح والحوار وغيرها من القيم. إليكم الحلقة السادسة من ملف "السجن الأبيض المتوسط".
مأساة المهاجرين إلى إيطاليا كبيرة، وأوضاعهم الصعبة لا تسرّ أيّاً كان، الأمر الذي يدعو إلى التشاؤم، خصوصاً مع صعود اليمين المتطرّف، وتراجع نسبة التفاؤل على خلفية تعقيد ملف الهجرة. خلال رحلة "العربي الجديد"، بدا ذلك واضحاً. لكن في الوقت نفسه، لاحت لنا أكثر من إشارة تؤكد أنّ "العالم ما زال بخير". ونستبشر بها، إذ إنّ المعركة لم تنتهِ بعد، والأصوات الحرّة ما زالت تعلو، والمناضلون لم يلقوا "سلاحهم" بعد، ولم يستسلموا لليأس والهزيمة.
في إيطاليا، التقينا برجال ونساء ليسوا سوى أمثلة حيّة عن أنّ العالم بخير، وأنّ ثمّة فضاءً متاحاً دائماً لإنقاذ البشر من أنانيتهم وجبروتهم. وهؤلاء كشفوا لنا أرقاماً وحقائق مخفية وحملونا واصطحبونا إلى الأزقة الخلفية، حيث تجري الأحداث، وحيث يتألم الناس بعيداً عن الأضواء والإعلام. إلى هؤلاء، كان لا بدّ من تحيّة إلى بياجو كونتيه ونادين عبدية ورمزي الهرابي.
بياجو كونتيه
في بداية العام الجاري، استيقظ الإخوة في "ميسيونيه دي سبيرينزا إيه كاريتا" (إرسالية الأمل والإحسان) في باليرمو، ليكتشفوا أنّ الأخ بياجو كونتيه الذي أسّسها لم يبت هناك بينهم. بحثوا عنه في كلّ مكان ليعثروا عليه في أحد الشوارع، وقد قرّر التضامن مع الذين يعيشون في المدينة ويموتون في الشارع، وسط حالة من اللامبالاة. في السياق، وجّه بياجو كونتيه رسالة مفتوحة إلى المدينة جاء فيها: "ما زلت لا أستطيع تقبّل أن يعيش كثيرون هذه المعاناة العميقة في حياتهم بسبب اللامبالاة. هم يعيشون ويموتون في الشارع. ما زلت لا أستطيع تقبّل أن يبقى كثيرون من دون عمل ولا منزل ويضطرون إلى الموت في الشارع. أريد أن أشاطرهم هذه الحياة وأبقى معهم، لذلك ولدت إرسالية الأمل والإحسان والجمعيات الخيرية، وهذا هو الطريق".
بعد أزمة روحية في بداية تسعينيات القرن الماضي، اختار بياجو كونتي، الذي كان في الثلاثينيات من عمره، التفرّغ للعبادة وإعانة الآخرين. فكّر في الانتقال إلى أفريقيا كمبشرّ، لكنّ حالة مدينته حينها دفعته إلى تغيير رأيه والبقاء فيها. وانطلق برسالته عبر تقديم الإعانة إلى المشرّدين المنتشرين بالقرب من محطة باليرمو المركزية لسكك الحديد، ثمّ اعتصم لفترة طويلة قبل أن يحصل على مبنى تعود ملكيّته إلى الجيش ويحوّله إلى مركز للإرساليّة التي تؤوي اليوم عشرات المهاجرين وتوفّر لهم مستلزمات الحياة الأساسية.
نتوجّه إلى كنيسته الواقعة في ذلك الفضاء الاجتماعي الكبير، فنصادف مهاجرين أفارقة، في حين نلاحظ رموزاً مسيحية وإسلامية ويهودية على الجدران. كذلك، ثمّة عدد من الإيطاليين في انتظاره، وقد جاء بعضهم من أماكن بعيدة لإلقاء التحيّة عليه أو مشاركته الصلاة. نسأله: "أخي، ألا تظنّ أنّ مأساة الهجرة السرية قد بيّنت بالفعل وجود مشكلة حقيقية في الإنسانية؟". فيجيب: "بالتأكيد. الشعوب تمرّ بأزمة إنسانية، لأنّ الإرادة الإلهية هي التي تحرك تلك المجموعات، ومن غير الممكن إطلاقاً أن تكون على خطأ. وفي أيامنا هذه، صارت الشعوب منغلقة على بعضها البعض وأكثر أنانية".
وعن رحلته الاحتجاجية الطويلة التي قام بها سيراً على الأقدام من باليرمو إلى روما تضامناً مع المهاجرين، يقول بياجو كونتيه: "في كلّ مرة أحاول فيها توصيل رسالة أو القيام بتحرّك ما، أجد في وجهي جدراناً... هي بالتأكيد جدران وهمية. لذا سرت على قدمَيّ في كامل أنحاء إيطاليا، وليس فقط من باليرمو إلى روما". يضيف: "بالنسبة إليّ، فإنّ كلّ البشر إخوة، وهذا ما أحاول نشره حيثما ذهبت. ومن واجبنا تقديم المساعدة إلى كلّ من يحتاج إليها".
"هل تشعر بأنّ العالم صار يغضّ الطرف عن القضايا الإنسانية؟"، لا يتردّد بياجو كونتيه في الإجابة: "نعم، فقلوب البشر صارت متحجّرة، وهم صاروا يتجاهلون المسؤوليات غير المباشرة، ونحن بصدد خسارة الإنسانية بسبب هذا. لم نعد نطبّق ما طلبه منّا الله". نقول: "لاحظنا أنّك تتحدث كثيراً باسم الديانات السماوية الثلاث وكأنّها دين واحد، على الرغم من صعوبة الحوار في ما بينها حالياً". فيؤكّد ذلك، مشدّداً على أنّه "كلّما وُجدت صعوبات، وجب علينا العمل أكثر لإصلاح أخطائنا. بالنسبة إليّ، فإنّ الحوار مهم بين الناس مهما كانت دياناتهم، وكلّما تنفق من مالك أو تعطي من وقتك إلى الآخر، فإنّ من شأن ذلك أن يعود عليك بالنفع. وما تراه هنا في هذه الكنيسة هو من صنع هؤلاء الذين استقبلناهم. نحن مددنا لهم يد المساعدة وهم قدّموا لنا في المقابل تعبهم". ويبدو حاسماً وهو يقول: "لمّا تتقابل الشعوب سوف يتحسّن العالم". ولا ينسى بياجو كونتيه الإشارة إلى باكير، وهو فنّان تونسي أهملته صالات العرض، فصوّر كل ما يكسو جدران الكنيسة هنا.
نادين عبدية
لا يمكن لأحد ألا يتنبّه لها في اعتصام أو وقفة احتجاجية أو غير ذلك من تحرّكات. إنّها الناشطة التونسية نادين عبدية، المنهمكة دائماً في شؤون الهجرة واللجوء، لا بل المدافعة الشرسة عن قضايا المهاجرين وحقوق الإنسان. ولأنّها تؤمن بالعمل الحقوقي والثقافي بهدف تأكيد الاندماج، قد تلقاها في أيّ ركن من أركان باليرمو، برفقة مهاجرين تعرفهم جميعاً بالاسم وتعلم جيّداً ما هي حاجاتهم وحاجات عائلاتهم.
في جولات عدّة لنا في المدينة، كانت نادين عبدية رفيقتنا. خلال إحداها، تشير إلى مبنى وتقول: "حصلنا عليه أخيراً من البلدية بعد نضال. فيه، سوف يُستحدَث فضاء خاص بالمسلمين. وعليّ البحث في كيفية هندسته ليلائم خصوصاً الجيل الثاني من المهاجرين". والناشطة الحقوقية التونسية - البالارميتان (نسبة إلى باليرمو) قضت سنوات من عمرها وهي تعمل في لامبيدوزا وفي مراكز إيواء مختلفة. وتغوص المرأة وهي في الأربعينيات من عمرها، في تفاصيل مأساة أبناء بلادها الأصلية، بعدما دخلت عالم النضال الاجتماعي في عام 1998. يُذكر أنّها بدأت تنشط في مناطق إيطالية كثيرة بصفتها متخصصة خبيرة في علم النفس الجنائي (الخاص بالجرائم) وفي الترجمة.
تجدر الإشارة إلى أنّ نادين عبدية هي مسؤولة المهاجرين في نقابة شيزل (الاتحاد العام للعمل) التي تُعَدّ من أكبر نقابات إيطاليا، وهي المسؤولة عن شؤون المهاجرين في باليرمو، وهي كذلك عضو منتخب في مجلس الثقافات التابع لبلدية باليرمو، وتتمسّك بحقوق المرأة والجيل الثاني من المهاجرين. وتبدو جازمة وهي تقول: "في حال دخلتَ إلى عالم الهجرة من أجل كسب المال، فإنّه يتوجّب عليكَ أن تتركه حالاً. هذه قضية نضالية في الأساس، وفي هذا المجال أنتَ تدفع ولا تتقاضى".
رمزي الهرابي
في خلال رحلتنا، التقينا بالفنان التونسي الشاب رمزي الهرابي، في مدينة كاتانيا التي تبعد نحو 300 كيلومتر عن باليرمو. الوقت ليل، وهو منشغل بمسابقة عرض للأزياء، إذ إنّه عضو في لجنة التحكيم. وكان قد تمسّك بالمشاركة والحضور لأنّه نجح في إقناع المنظمين بإشراك مهاجرتَين أفريقيتَين في ذلك العرض الكبير الذي يشغل قلب المدينة، بمناسبة افتتاح احتفالات "سانتا أغاتا"؛ حامية المدينة وشفيعتها.
هذه "لحظة مهمة جداً" بالنسبة إلى الفنان الشاب الذي يختصر حياته بالفنّ والمهاجرين، ويقول لـ"العربي الجديد" إنّه "لا بدّ من أن يكون الاندماج من الباب الكبير ومن بوابة الثقافة والفكر، وكذلك حيث يكون السكان الأصليون معنيين". وهو كان قد أصرّ على مشاركة مهاجرين كثيرين في هذه التظاهرة، واصطحبهم في حافلة تابعة لمركز الإيواء الذي يستقبلهم. وفي طريق العودة إلى سيراكوزا، استقلينا تلك الحافلة.
ورمزي الهرابي المستقرّ في إيطاليا، الذي يُعَدّ وسيطاً ثقافياً لدى مراكز إيواء ترعى المهاجرين القصّر، عزف وغنّى على خشبات مسارح وفي مهرجانات وساحات كبرى في إيطاليا، وكانت له محاضرات في أكثر من مدينة إلى جانب إيطاليين، وفاز بجائزة شعر في عام 2004 وبتسمية شرفية في عام 2008 كفنان يعمل من أجل التقارب والحوار الثقافي. ومنذ عامَين، يرأس مركز دراسات حول التعدد الثقافي.
حين تراه مع المهاجرين، تدرك سريعاً أنّه جعل قضية الهجرة محور حياته، فهو يعاملهم بصفته "أخاً أكبر". ولا يفوت أحد كيف يتودد إلى الصغار منهم، الوافدين حديثاً من البحر، قائلاً: "انتهت المشكلة. الآن سوف تبدؤون حياة جديدة، وسوف تتعلمون وسوف يكون المستقبل مفتوحاً أمامكم". إضافة إلى ذلك، يعلّم رمزي الهرابي اللغة العربية لإيطاليين وأميركيين وغيرهم، في حين يعرفه كلّ من يعيش في المدينة. هو يدخل إلى المراكز الثقافية والكنائس والمؤسسات من دون استئذان، ويُخرج اللاجئين إلى الفضاء العام، حتى "يتدرّجوا في الحياة الجديدة" مثلما يقول. يُذكر أنّ صحفاً غربيّة كتبت أنّه يستيقظ صباحاً من أجل المهاجرين وينام ليلته على صدى ضحكاتهم وآلامهم، وسألت: كيف يستطيع الفنّ أن يصمد أمام المأساة؟