ميلاد يحيى ورحيل ناهض
صادف يوم الإثنين الماضي، الثالث عشر من إبريل/نيسان، ذِكْرَيان فلسطينيتان. الأولى، ميلاد الشاعر يحيى بَرْزق، والثانية ذكرى وفاة السياسي والشاعر ناهض الريّس.
وبعيداً عن مفارقة الميلاد والوفاة، فإن الذِكْرَيان تحملان مصادفة، تتمثل في وجود وجه شبه كبير بين الرجليْن، فكلاهما من رجالات فلسطين الوطنيين، وعُرف عنهما الإخلاص، والتجرد التام، والجهر بالحق، ورفض النفاق والتملق. كما أن الرجليْن، اللذين عاشا بعض الوقت في مدينة غزة، وذاقا ويلات الغربة، ومرارة اللجوء، قرضا الشعر، وأبدعا فيه، وأزعم أن أسلوبهما في الكتابة يتقارب إلى حد بعيد.
ولد بَرْزق عام 1929، وتوفي عام 1988، ولم يتح لجيلنا التعرف عليه عن قُرب، ولعله لم يأخذ حقه في الشهرة، والمعرفة. وحسب زوجته، في مقابلة صحافية، أُصيب بجلطة قلبية عقب علمه بمجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، لم يتحمل قلب الشاعر الرقيق، المتصل بهموم الوطن، هوْل الفاجعة، وبقي يعاني من تأثيراتها، إلى أن توفاه الله.
وكان آخر عهد بَرْزق بالدنيا، قصيدة (شراع الجليل)، التي أملاها على زوجته، وأشاد فيها بعملية الطائرة الشراعية الشهيرة، التي نفذها الفدائي السوري، خالد أكر، شمال فلسطين المحتلة في نوفمبر/تشرين ثاني 1987، التي ختمها بقوله: وتوارى الفتى ولكن ذكراه/ ستبقى لنا الشعاع الهادي
وتنقل مواقع أدبية عن بَرْزق قصة حدثت له حينما كان عمره 12 سنة، حينما شهد حفلاً أقامه المستعمرون الإنجليز في مدينة بئر السبع (قبل نكبة فلسطين عام 1948)، بهدف اجتذاب جموع الشباب العربي للانخراط في جيوش الحلفاء. ويضيف أنه لم يقوَ طويلاً على سماع عبارات الحاكم البريطاني، التي حاول فيها الإشادة بـ"الصداقة البريطانية العربية"، فصاح مرتجلاً أبياتاً شعرية، وصفها بالساذجة، لكنها نجحت في إفشال الحفل.
من أشعاره التي كتبها في السجن الإسرائيلي: هَوايَ هُو الأَقصى وصخرتهُ/ فالقلبُ بالركنِ والمحرابِ يلتصقُ. لكنهم سَخِرُوا منِّي ومن بَلدي/ واستَاقَني جُنْدهُم والقيدُ يَصطَفقُ. فالحُبّ أَضْحَى لديهِم تُهمةً عَظُمَتْ/ بهَا يُعذَّبُ مَنْ هَامُوا ومَن عَشِقُوا.
أما عن الشاعر والسياسي، ناهض الريّس، الذي غادرنا عام 2010، فقد تشرفتُ بالتعرف عليه، من عملي صحافياً، وقد تأثرت كثيراً بشخصيته، حيث كنت أشعر دوما برفقته بأنني أمام رجل كبير، قلما سيُنجب الوطن أمثاله. اتصل بي، قبل وفاته بفترة وجيزة، وهو ما أثار استغرابي لعلمي بأنه مريض، بل يحتضر، فاعتقدت، للوهلة الأولى، أن المتصل أحد أبنائه، لكني فوجئت بصوته الضعيف يرحب بي، ويطلب مني إبلاغ الصحافيين الفلسطينيين ضرورة التصدي لمزاعم بريطانيا بأنها تلاحق قتلة الشهيد، محمود المبحوح، الذي اغتالته إسرائيل في دبي في تلك الفترة. أذكر أنه قال: لا تصدقوا بريطانيا، فهي سبب مأساة شعبنا. فوعدته بإنفاذ وصيته، قدر استطاعتي، وقلت لنفسي بعد أن أغلق الهاتف: سبحان الله، لا ينسى الرجل فلسطين، حتى وهو يموت.
ومع كتابة ناهض الريس الشعر، حمل السلاح في وجه الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن ترك عمله وكيلاً لنيابة مدينة غزة عام 1965، وتطوّع ضابطاً في جيش التحرير الفلسطيني، وعقب عودته إلى غزة عام 1994، انتخب نائباً في المجلس التشريعي، وشغل منصب وزير العدل عام 1999، إلا أنه اختلف كثيرا مع حركة فتح والرئاسة الفلسطينية، في أواخر حياته.
في ذكرى رحيله، أذكره بأبيات عذبة من قصيدته "القسام يعلم في جامع الاستقلال: المَاضي مَدرسَةُ الحَاضِر/ والَّثورةُ مَدرسَةُ الدولة. والطالِبُ سِرُّ مُعلمِهِ/ فَانظُر حَولَك ماذا تُبصِر؟ أبصر حَولكَ ماذا تَنظُرْ/ وإذا اشتَبهَت دَربُكَ فارجع. من حَيثُ بَدَأتَ ولا تَجزَع / فالثَّورَةُ عِلمٌ بالَّتجريبِ وبالمَعلُولِ وبالعلِّة. فَاصبر نفسكَ لِتعلمِه، تعرِف أعمَقَ تَعرِف أوسَعْ.