موسكو ومطاردة الساحرات

27 ديسمبر 2017
+ الخط -
على الرغم من الهيمنة الروسية الظاهرة على الاجتماعات العسكرية والسياسية بشأن الملف السوري في أستانة وسوتشي، وحرصها على السيطرة على إيقاع اجتماعات جنيف، فإن فرض تصورها للحل في سورية ليس محسوما في ضوء الهوة الواسعة بين هدفها الاستراتيجي وقدراتها الواقعية، فالهدف الاستراتيجي الذي تعمل، بكل طاقتها، لتحقيقه هو حجز موقع قطب دولي ندٍّ للولايات المتحدة الأميركية؛ ومعالجة الجرح النفسي الذي ترتب على انهيار الاتحاد السوفييتي، والفوضى والضياع خلال فترة حكم بوريس يلتسين، بضمان أمنها الوطني. وهذا يحتاج قدراتٍ، وخوض صراعات كبيرة ومتنوعة، بدءا بكسر الطوق الذي يحيط بها (اقترب حلف الناتو من حدودها الغربية، شبكة الدرع الصاروخية الأميركية التي نشرت أجزاء منه في تركيا ورومانيا وبولندا، شبكة صواريخ "ثاد" المتطوّرة التي نشرتها الولايات المتحدة في كوريا الجنوبية، الصواريخ النووية المتوسطة في أوروبا واليابان)، وتحقيق توازن عسكري مع خصومها الإقليميين والدوليين، برفع قدراتها العسكرية البرية والجوية والنووية كمّا ونوعا، وضعت لنفسها هدفا تحديث 60% من أسلحتها، بما في ذلك الأسلحة النووية، وهذا يتطلب ضخ أموال كبيرة، والعمل على حماية حصتها في استثمارات دول الجوار الجغرافي التي بدأت الصين بالسيطرة عليها وامتصاص فوائضها.
تحدّيات كبيرة وصعبة في ضوء تنوعها واتساعها وضخامتها، بالقياس إلى إمكاناتها وإمكانات الخصوم المباشرين والمحتملين. ولم يكن ردها الرئيس؛ عبر الانخراط في تكتلات وتجمعات لتثقيل أوراقها في مواجهة الثقل الغربي السياسي والاقتصادي (منظمة شنغهاي، بريكس، الاتحاد الأوراسي)، تصعيدها العسكري في وجه التمدّد الغربي في دول أوروبا الشرقية (الهجوم على جورجيا وفصل أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عنها، الضغط على دول البلطيق، التدخل في أوكرانيا وضم جزيرة القرم ودفع المقاطعات الشرقية للانفصال عنها)، واستثمار احتياطياتها الضخمة في مجال الطاقة (النفط والغاز) للضغط على الدول الأوروبية، المستورد الرئيس لهما، عبر السعي إلى التحكّم بالأسواق والأسعار وخطوط النقل، تسخين الأجواء مع "الناتو" (تحليق الطيران العسكري فوق سواحل دول البلطيق، تحليق طائرات استراتيجية
بالقرب من الشواطئ الأوروبية والأميركية والكندية، نشر قوات في القطب الشمالي، نشر الغواصات في البحار والمحيطات القريبة من الدول الغربية، نشر بطاريات صواريخ إس 400 في القرم وعلى الحدود الشرقية)، للضغط من أجل دفع الخصوم إلى الجلوس حول مائدة التفاوض، لم يكن كافيا لإقناع الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، بالاعتراف بها قوة عظمى، أطلق عليها الرئيس الأميركي السابق، بارك أوباما، وصف "قوة إقليمية"، فطوّرت هجومها العسكري والسياسي والدبلوماسي في شرق المتوسط وشمال أفريقيا وأميركا اللاتينية، من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية تسمح بوجود عسكري وسياسي واقتصادي؛ وإقامة قواعد ونقاط ارتكاز قرب حدود الدول الغربية ومصالحها لردعها، وردع ذراعها العسكرية (حلف الناتو). تدخلت عسكريا في سورية بشكل مباشر، وبالتنسيق مع إيران ومليشياتها المذهبية. وفي ليبيا بدعم خليفة حفتر عبر مصر. وعملت، وما تزال، على سحب تركيا بعيدا على التحالف الغربي بالاستجابة لهواجسها ومخاوفها الكردية. واتفقت مع الرئيس السوداني، عمر البشير، على إقامة قاعدة بحرية على البحر الأحمر، وسرّعت وتيرة إنتاجها العسكري لإعطاء صدقية ووزن لتكتيكاتها السياسية وخطواتها العملية.
وقد حرصت وزارة الدفاع الروسية في الذكرى 103 لانطلاق الصناعات الحربية الروسية على الإعلان عن إنجازاتها العسكرية، مرفقة بذكر نوع القطع العسكرية المنجزة وعددها. وأعلن وزير الدفاع أن القوات الروسية تسلّمت في السنوات الخمس الماضية 80 صاروخا عابرا للقارات وتسع غواصات و55 طائرة و3237 دبابة ومدرعة، وتغنّى إعلامها بقدراتها العسكرية، فقد ذكرت قناة آر تي الروسية إن مجمل الساعات التي أمضتها القاذفات الاستراتيجية الروسية في أجواء روسيا والعالم خلال العام الماضي 17 ألف ساعة، و"جابت أجواء الكرة الأرضية في الليل والنهار ومختلف الظروف الجوية". وقالت عن الطائرة الروسية "تو- 160"، التي سيتسلم الجيش خمسين منها حتى عام 2025، " تحمل 12 صاروخا مزوّدة برؤوس نووية ليصل إجمالي ما على متنها من ذخائر إلى 40 طنا، وقادرة على التحليق لـ14 ألف كم دون التزود بالوقود، وتستطيع بصواريخها النووية تغطية أراضٍ تعادل القارة الأوروبية بمساحتها". وعن الصاروخ الروسي المجنح الجديد أكس - 50 "يمكنه إصابة الهدف بدقة على مسافة 1500 كلم". وذلك كله ضمن تصور أن يتحقق هدف روسيا باعتراف الغرب بها قوة عظمى، ويتعاون معها في حل المشكلات الدولية. ولكن الغرب بقي على موقفه منها، وما زال يطالبها بالتوقف عن التدخل في أوكرانيا والانسحاب من جزيرة القرم، ووقف تهديداتها لدول البلطيق، ويفرض عليها عقوبات اقتصادية، بل ويفرض مزيدا منها. ووضعها ذلك كله في موقف دقيق وحرج، على خلفية كلفة التمدّد الإقليمي، فإنشاء قواعد عسكرية مكلف ماليا؛ خصوصا لدولةٍ يعاني اقتصادها من نقاط ضعف وهشاشة (معظم الناتج القومي من تصدير المواد الأولية، النفط والغاز خصوصا). والاقتصاد أساس قيام القوى العظمى. وكان المؤرخ الأميركي، بول كنيدي، قد درس تجارب نشوء القوى العظمى وسقوطها خلال 500 سنة، واستنتج القانون الذي حكم الظاهرة: "اقتصاد قوي يمول قوات منتشرة في الخارج"، مع احتمال تضاعف عجز اقتصادها إذا ما استدرجتها الولايات المتحدة إلى سباق تسلح (موازنة روسيا العسكرية 43 مليار دولار وموازنة الولايات المتحدة نحو 700 مليار).
وكان لافتا أن القيادة الروسية لم تكتف بتجاهل النتائج المتواضعة لمحاولاتها المتكرّرة لإقناع الغرب بقبول أوراق اعتمادها في قائمة القوى العظمى، بل وذهبت بعيدا في تضخيم هذه النتائج، فقد ذكرت وكالة سبوتنيك إن الاستراتيجية الكبرى لروسيا في القرن الـ21 تدور حول التحول إلى القوة العظمى لتحقيق التوازن داخل المنطقة الأورو - آسيوية، الأمر الذي يفسر السبب وراء محاولتها "تحقيق توازن" داخل منطقة الشرق الأوسط التي تتداخل مع ثلاث قارات، عبر دبلوماسية القوة العظمى مع إيران وتركيا من أجل التصدّي للعمليات المدمرة التي أطلقتها الولايات المتحدة داخل المنطقة، منذ ما أطلق عليها "الحرب الدولية ضد الإرهاب"، وحتى الآن، أحرزت المهمة متعددة الأقطاب التي أطلقتها موسكو نجاحاً هائلاً".
غير أن مكابرة موسكو لم تجد في إخفاء موقفها الدقيق والحرج الذي عكسته النتائج السورية الهزيلة لجولات أستانة الثماني، وقمة سوتشي مع الرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني، ونقاط الضعف التي تحيط بتحرّكها لعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي يومي 29 و 30 من يناير/ كانون الثاني 2018، حيث التناقض والتعارض بين أهداف الدول الراعية (روسيا، تركيا وإيران) وتصوّراتها، فروسيا تريده لاستمرار تحرّكها السياسي، لا تريد وقف محاولاتها لكي لا يظهر عجزها ونقاط ضعفها وعدم تحقيقها نتائج ملموسة. ولمواصلة الضغط على الولايات المتحدة التي لم تمنح تحرّكها في أستانة وسوتشي شرعية بإعلانها المتكرّر "إن جنيف هو المسار الوحيد الشرعي"، بإعطاء انطباع بانفرادها في قيادة
عمليةٍ سياسيةٍ، بينما الولايات المتحدة، التي ليس لوجودها في سورية مشروعية، تكتفي بتدمير المدن والبلدات السورية، وإيجاد تكتل مناهض للغرب في منطقة الشرق الأوسط، وتمرير الحل عبره، يحرّرها من مشاركة دول لها تصورات مختلفة، والإبقاء على المعارضة في موقف دفاعي.
وفيما تنحني تركيا للمطالب الروسية، لعلها تكسب رضا موسكو، فتمنحها ضوءا أخضر للتحرّك ضد وحدات حماية الشعب في عفرين، تناور إيران عبر الموافقة على عقد مؤتمر سوتشي والتصعيد العسكري (في قمة سوتشي التي جمعت بوتين وأردوغان وروحاني طالب الأخير بموافقة شريكيه على احتلال مليشيا موالية لإيران بقاعا غير متصلة بين الحدود العراقية والحدود السورية مع لبنان)، كي تغطّي على رفضها الانتقال السياسي، انتقدت صحيفة كيهان موقف موسكو ودعوتها ضمنا بقولها: "الذين يرتدون ملابس الأصدقاء لا يمكنهم أن يحدّدوا مصير سورية بل سيحدده شعبها في ظل قوة محور الممانعة". ولم يقبل النظام السوري طرح دستور جديد وانتخابات رئاسية في سوتشي، في حين أعلنت المعارضة تمسكها بأهدافها في تحقيق انتقال سياسي، وتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات. وهذا بالإضافة إلى تفضيل دول أوروبية التركيز على مفاوضات جنيف، وضرورة الغطاء الدولي لأي اتفاق، ما يعني حاجة روسيا لمباركة واشنطن التي لن تمنح مباركتها من دون تحقيق أهدافها، والتي ربطت استمرار وجود قواتها في سورية بالتوصل إلى سلام دائم، جعل التحرك الروسي واحدةً من حالات مطاردة الساحرات.
6CA590C2-8659-4A0A-A922-01E9ECC0A639
علي العبدالله

كاتب سوري