11 نوفمبر 2024
من يملأ الفراغات المحتملة في تونس؟
تعيش الخريطة السياسية في تونس، والبلاد على أبواب سنة انتخابية، حالة مخاض تنبئ بتحولاتٍ عميقة، وهي التي عرفت، منذ انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011، حالة انجراف حاد، فعدد الأحزاب الذي فاق 210 أحزلب ليس سوى الشجرة التي تخفي الغابة. إذ في مقابل هذا العدد تراجع الخزّان الانتخابي العام، فلم تبلغ نسبة الإقبال على الانتخابات البلدية التي جرت في مايو/ أيار الماضي سوى 33% تقريبا، فقد فيها حزب نداء تونس (الحاكم) أكثر من مليون ناخب، مقارنة بانتخابات 2014. ولا يختلف الأمر عند حزب النهضة الذي تواصل تراجع قاعدته الانتخابية بشكل محير. لقد التهم الحكم، في سياقات صعبة من انتقال ديموقراطي عسير، جزءا من الطبقة السياسية، وتحديدا الأحزاب التي اقتربت من دوائر الحكم. ويرجع تونسيون هذا الأمر إلى ما اصطلح عليها "لعنة الحكم"، فلا أحد حاليا يكاد يسمع ب "المؤتمر من أجل الجمهورية"، حزب الرئيس السابق منصف المرزوقي، أو "التكتل من أجل العمل والحريات"، حزب رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر، وقد شكلا مع "النهضة" تحالفا للحكم عرف بالترويكا.
الانشقاقات والنتائج الهزيلة التي حصلت عليها تلك الأحزاب في المحطات الانتخابية بعد سنة 2014 ضاعفت من حالة الترهل تلك. كان يُعتقد أن تراجع هذين الحزبين، وصعود حزب نداء تونس على إثر انتخابات 2014، وفوزه المهم على خصمه "النهضة"، سيمنحان الساحة السياسية قدرات مهمة على التجدّد ربما تعيد تشكيل النخب السياسية، ولكن كل ما حدث يفيد
عكس ذلك، فبعد استقطاب انتخابي حادّ شجّ الجسم الاجتماعي برمته، توصل حزب نداء تونس إلى عقد اتفاقياتٍ توافق مع غريمه السياسي "النهضة"، ربما خنقت الساحة السياسية برمتها، إذ عطلت تشكل معارضة قوية، فضلا عما شهدته الساحة نفسها من تشرذمٍ في ظل ثقافة سياسية، سمتها الزعاماتية المفرطة، وتغييب الديموقراطية الحزبية، وهواية كسر العظام.
قد تكون حركة النهضة الحزب الوحيد في تونس الذي سلم، نسبيا، من لعنة الحكم خلال العهدة الجديدة، حيث نجت من الانشقاقات، باستثناء استقالاتٍ لم يكن لها أثر في تماسكها، حيث ظلت استقالات فردية تقريبا على غرار استقالة أمينها العام السابق ورئيس الحكومة، حمادي الجبالي. على خلاف ذلك، فإن "نداء تونس" قد جسد الحالة البليغة لهذا التدهور المتسارع: تراجع قاعدته الانتخابية، انشقاقات أدت إلى تناسل أكثر من خمسة أحزاب من صلبه، فضلا عن صراعاتٍ علنية بين مختلف قياداته، تجاوزت الأعراف السياسية المتعارف عليها. ويبدو أن رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، القادم من هذه القيادات نفسها، قد يغادر الحزب، ليعلن عن كيان سياسي جديد، وهو الذي أحيل ملفه على لجنة التأديب بتهمة "التنطع السياسي"، وصدر قرارٌ بتجميد عضويته في الحزب الذي هناك احتمالات جدية بتحلّله، لو تواصل الأمر على هذا الشكل، خصوصا وأنه حزبٌ لم يعقد مؤتمره التأسيسي، وظلّ بلا انتخابات داخلية تفرز ديموقراطيا هياكله المسيرة، علاوة عن غياب مؤسّسه الرئيس الباجي قائد السبسي عنه، لأسبابٍ عديدة، منها أن منصب الرئيس يمنعه دستوريا من مواصلة إشرافه على الحزب، وتقدّم سنه الذي أعاق تحكّمه في الأمور التي يبدو أنها تجاوزته إلى حدّ كبير. تقول أوساط مقرّبة من مؤسسة الرئاسة إنه فقد السيطرة الأدبية، وحتى الذهنية، على كثيرٍ مما يحيط به. كل هذه العوامل تجعل مصير الحزب معلقا بصحة مؤسسه الرئيس السبسي. وقد تكون هذه الأسباب هي التي عجّلت، في الأشهر الأخيرة، باندلاع معركة الخلافة على الحزب بين نجل الرئيس، حافظ السبسي، وقياداتٍ عديدة تحينت هذه الفرصة، فأصيبت البلاد مرة أخرى بفيروس التوريث، ولكن تحت لافتاتٍ ديموقراطية هذه المرة. يرجّح بعضهم أن يستمرّ تراجع الحزب، وقد يتلاشى بفعل الخلافات الداخلية، وجموح قياداته الراغبة في الزعامة، خصوصا وقد تبيّن أنه حزب انتخابات، وليس حزب برامج ولا أطروحات. لا تستبعد بعض الفرضيات أن ينتهي حزب نداء تونس إلى شبح حزبٍ في الأشهر القليلة المقبلة، وقد يصل منهكا إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2019. كلها نذر دفعت من انشقوا عليه إلى العودة إليه، تاركين أحزابهم التي أسّسوها، أو منصهرين فرادى وجماعات.
يبدو أن قراءة رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، الخريطة الحزبية، ولحزب نداء تونس تحديدا، تنتهي إلى تلك التوقعات أيضا. ولكن يبدو أنه استوعب الدرس، بعد أن تأكّد لديه أن هذا الحزب قد تحوّل، في المشهد السياسي التونسي، إلى ما يشبه "الرجل المريض" الذي لن يدرك الانتخابات المقبلة التي ستجري أواخر هذه السنة السياسية. لذلك قد يعلن عن مبادرة حزبية جديدة، بدا الاشتغال عليها كما أشير سابقا، وليس تشكيل الكتلة البرلمانية (الائتلاف الوطني) التي تم الإعلان عنها سوى مقدّمة لهذا الكيان.
يتوّهم بعضهم أن حركة النهضة الرابح الأكبر من كل هذا الفراغ الحاصل في الساحة السياسية، ولكن تتهاوى هذه الأوهام، حين نعلم أن "نداء تونس" قد منح "النهضة" من خلال سياسات
التوافق التي حرص عليها "الشيخان" (الباجي السبسي وزعيم الحركة راشد الغنوشي) مظلةً داخلية ودولية نادرة، لا يجود بها إلا شخص في دهاء الرئيس الباجي السبسي وبراغماتيته. لقد جنّبها أن تكون في الواجهة، وهي واجهة جرّبتها، فجعلتها في مواجهة الجميع: يسار راديكالي عنيف، لا يؤمن بحقّ "النهضة" في العمل السياسي أصلا، دولة عميقة تعتقد أن الحركة خطرٌ على السلم الأهلي والمدني، بقايا حزب قديم يستحضر، في ديماغوجيته السياسية، عقيدة مناهضة الإخوان المسلمين، محيط إقليمي ودولي لا يطمئن إلى هذه التجربة، خصوصا بعد مآلات الربيع العربي الذي شوّهه الإرهاب، وانقلب عليه العسكر في أكثر من حالة، حتى انتهت إلى حربٍ أهلية. لقد مارست قوى إقليمية ودولية عديدة مختلف أصناف الضغوط على الرئيس الباجي السبسي، من أجل إنهاء التوافق وإرجاع الإسلاميين إلى مربع الملاحقة، غير أن الرجل رفض، لاعتبارات عديدة.
لا يبدو أن "النهضة" ترغب في تفكك "نداء تونس"، ولا ترغب في أن تكون اللاعب السياسي القوي والوحيد، فذلك ما سيضاعف الأخطار المحدقة بها، إذ ستجد نفسها القوة السياسية المطالبة بإدارة بلادٍ، يبدو أنها ما زالت عصية على الحكم. تدرك الحركة أنه في تونس تحديدا لا يعني أن تكون الحزب الأقوى أنك الأقدر على الحكم، خصوصا في ظل تجربةٍ ما زالت تستحضرها بمرارةٍ وقسوةٍ كثيرتين، حتى تحولت إلى ما يشبه "عقدة الترويكا". تعتقد "النهضة" أنها المتضرّر الأكبر من تراجع "نداء تونس" وضعفه.
هل ثمّة من سيعوّض هذا الفراغ، لو واصل حزب نداء تونس هذا التحلل السريع، وهل تقدر البلاد أن تساس بغير حزب النهضة و/ أو "نداء تونس"؟ ليس في الأفق المنظور حزبٌ يستطيع ملء تلك المساحة التي احتلها حزب نداء تونس تحديدا، وقد تحول عبئا وخطرا على الانتقال السياسي ذاته، فحتى المعارضة أصابها ما أصاب أحزاب الحكم من تفكّك، ولا يبدو أنها قادرة حاليا على استغلال تراجع خصومها. يحذّر أحد قيادات الجبهة الشعبية (تكتل يساري - قومي)، النائب منجي الرحوي، أن الجبهة الشعبية قد لا تدرك انتخابات 2019 إذا ظلت على حالها: هياكل متكلّسة، زعاماتية خانقة، خطاب طوباوي.. إلخ. في وسط الخريطة التي تنجرف فيها الأحزاب بشكل سريع، تبرز نتوءات وتضاريس خفية، لكنها قد تنبئ بتحولاتٍ ما خلال الأشهر المقبلة: هذا الكيان الجديد الذي قد ينشأ في غضون الأشهر القليلة المقبلة، عنفوان حزب التيار الديموقراطي الذي جعل من محاربة الفاسد رهانه الأخلاقي والسياسي الأكبر. ولكن سيكون من المبكّر تحليل المآلات، لكنها تطورات محتملة جديرة بالمتابعة والاهتمام.
الانشقاقات والنتائج الهزيلة التي حصلت عليها تلك الأحزاب في المحطات الانتخابية بعد سنة 2014 ضاعفت من حالة الترهل تلك. كان يُعتقد أن تراجع هذين الحزبين، وصعود حزب نداء تونس على إثر انتخابات 2014، وفوزه المهم على خصمه "النهضة"، سيمنحان الساحة السياسية قدرات مهمة على التجدّد ربما تعيد تشكيل النخب السياسية، ولكن كل ما حدث يفيد
قد تكون حركة النهضة الحزب الوحيد في تونس الذي سلم، نسبيا، من لعنة الحكم خلال العهدة الجديدة، حيث نجت من الانشقاقات، باستثناء استقالاتٍ لم يكن لها أثر في تماسكها، حيث ظلت استقالات فردية تقريبا على غرار استقالة أمينها العام السابق ورئيس الحكومة، حمادي الجبالي. على خلاف ذلك، فإن "نداء تونس" قد جسد الحالة البليغة لهذا التدهور المتسارع: تراجع قاعدته الانتخابية، انشقاقات أدت إلى تناسل أكثر من خمسة أحزاب من صلبه، فضلا عن صراعاتٍ علنية بين مختلف قياداته، تجاوزت الأعراف السياسية المتعارف عليها. ويبدو أن رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، القادم من هذه القيادات نفسها، قد يغادر الحزب، ليعلن عن كيان سياسي جديد، وهو الذي أحيل ملفه على لجنة التأديب بتهمة "التنطع السياسي"، وصدر قرارٌ بتجميد عضويته في الحزب الذي هناك احتمالات جدية بتحلّله، لو تواصل الأمر على هذا الشكل، خصوصا وأنه حزبٌ لم يعقد مؤتمره التأسيسي، وظلّ بلا انتخابات داخلية تفرز ديموقراطيا هياكله المسيرة، علاوة عن غياب مؤسّسه الرئيس الباجي قائد السبسي عنه، لأسبابٍ عديدة، منها أن منصب الرئيس يمنعه دستوريا من مواصلة إشرافه على الحزب، وتقدّم سنه الذي أعاق تحكّمه في الأمور التي يبدو أنها تجاوزته إلى حدّ كبير. تقول أوساط مقرّبة من مؤسسة الرئاسة إنه فقد السيطرة الأدبية، وحتى الذهنية، على كثيرٍ مما يحيط به. كل هذه العوامل تجعل مصير الحزب معلقا بصحة مؤسسه الرئيس السبسي. وقد تكون هذه الأسباب هي التي عجّلت، في الأشهر الأخيرة، باندلاع معركة الخلافة على الحزب بين نجل الرئيس، حافظ السبسي، وقياداتٍ عديدة تحينت هذه الفرصة، فأصيبت البلاد مرة أخرى بفيروس التوريث، ولكن تحت لافتاتٍ ديموقراطية هذه المرة. يرجّح بعضهم أن يستمرّ تراجع الحزب، وقد يتلاشى بفعل الخلافات الداخلية، وجموح قياداته الراغبة في الزعامة، خصوصا وقد تبيّن أنه حزب انتخابات، وليس حزب برامج ولا أطروحات. لا تستبعد بعض الفرضيات أن ينتهي حزب نداء تونس إلى شبح حزبٍ في الأشهر القليلة المقبلة، وقد يصل منهكا إلى الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2019. كلها نذر دفعت من انشقوا عليه إلى العودة إليه، تاركين أحزابهم التي أسّسوها، أو منصهرين فرادى وجماعات.
يبدو أن قراءة رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، الخريطة الحزبية، ولحزب نداء تونس تحديدا، تنتهي إلى تلك التوقعات أيضا. ولكن يبدو أنه استوعب الدرس، بعد أن تأكّد لديه أن هذا الحزب قد تحوّل، في المشهد السياسي التونسي، إلى ما يشبه "الرجل المريض" الذي لن يدرك الانتخابات المقبلة التي ستجري أواخر هذه السنة السياسية. لذلك قد يعلن عن مبادرة حزبية جديدة، بدا الاشتغال عليها كما أشير سابقا، وليس تشكيل الكتلة البرلمانية (الائتلاف الوطني) التي تم الإعلان عنها سوى مقدّمة لهذا الكيان.
يتوّهم بعضهم أن حركة النهضة الرابح الأكبر من كل هذا الفراغ الحاصل في الساحة السياسية، ولكن تتهاوى هذه الأوهام، حين نعلم أن "نداء تونس" قد منح "النهضة" من خلال سياسات
لا يبدو أن "النهضة" ترغب في تفكك "نداء تونس"، ولا ترغب في أن تكون اللاعب السياسي القوي والوحيد، فذلك ما سيضاعف الأخطار المحدقة بها، إذ ستجد نفسها القوة السياسية المطالبة بإدارة بلادٍ، يبدو أنها ما زالت عصية على الحكم. تدرك الحركة أنه في تونس تحديدا لا يعني أن تكون الحزب الأقوى أنك الأقدر على الحكم، خصوصا في ظل تجربةٍ ما زالت تستحضرها بمرارةٍ وقسوةٍ كثيرتين، حتى تحولت إلى ما يشبه "عقدة الترويكا". تعتقد "النهضة" أنها المتضرّر الأكبر من تراجع "نداء تونس" وضعفه.
هل ثمّة من سيعوّض هذا الفراغ، لو واصل حزب نداء تونس هذا التحلل السريع، وهل تقدر البلاد أن تساس بغير حزب النهضة و/ أو "نداء تونس"؟ ليس في الأفق المنظور حزبٌ يستطيع ملء تلك المساحة التي احتلها حزب نداء تونس تحديدا، وقد تحول عبئا وخطرا على الانتقال السياسي ذاته، فحتى المعارضة أصابها ما أصاب أحزاب الحكم من تفكّك، ولا يبدو أنها قادرة حاليا على استغلال تراجع خصومها. يحذّر أحد قيادات الجبهة الشعبية (تكتل يساري - قومي)، النائب منجي الرحوي، أن الجبهة الشعبية قد لا تدرك انتخابات 2019 إذا ظلت على حالها: هياكل متكلّسة، زعاماتية خانقة، خطاب طوباوي.. إلخ. في وسط الخريطة التي تنجرف فيها الأحزاب بشكل سريع، تبرز نتوءات وتضاريس خفية، لكنها قد تنبئ بتحولاتٍ ما خلال الأشهر المقبلة: هذا الكيان الجديد الذي قد ينشأ في غضون الأشهر القليلة المقبلة، عنفوان حزب التيار الديموقراطي الذي جعل من محاربة الفاسد رهانه الأخلاقي والسياسي الأكبر. ولكن سيكون من المبكّر تحليل المآلات، لكنها تطورات محتملة جديرة بالمتابعة والاهتمام.