04 يناير 2021
من دروس انقلاب تركيا الفاشل
حظيت محاولة الانقلاب التي نفذتها مجموعة من الجيش التركي على الحكومة الشرعية هناك باهتمام عربي كبير، ظهر جلياً بحجم تغطية وسائل الإعلام العربية، وكذا على مواقع التواصل الاجتماعي. ومنذ اللحظات الأولى للإعلان عن الانقلاب، انقسمت الآراء لدى متابعين عرب كثيرين بين مؤيدة ورافضة له، بناء على تموضع أصحابها السياسي-الأيديولوجي حول الأزمات التي تمر بها منطقتنا العربية. من دون إغفال بروز أصواتٍ رفضت الانقلاب من حيث المبدأ، انحيازاً للديمقراطية، على الرغم من معارضتها أردوغان والسياسة التركية في المنطقة.
بارك أنصار الأنظمة الحاكمة وقوى الثورة المضادة الانقلاب، وهلّلوا بتسّرع أرعن لنجاحه المزعوم. وهم معذورون، لا تستوعب عقولهم أن يُقدم جيشٌ على انقلابٍ ويفشل. وبحسب منطق تفكيرهم وتركيبتهم السيكولوجية؛ التغيير شأن عُلوي، تحدّده مؤامرات القوى الدولية الكبرى، والقوى المحلية النافذة التي تربطها مصالح مع تلك الخارجية. أما الشعوب فلا مكان لها في معادلة التغيير بالنسبة لهم، على الرغم من أن منهم من تغنّى عقوداً بالشعوب التي إن أرادت الحياة سيستجيب لها القدر. تلك كانت شعاراتٍ تصلح مادة للبروباغندا السياسية ليس إلّا، فحين أرادت الشعوب العربية الحياة بانت انحيازاتهم المشينة.
وانعكس منطق هذا الفريق على لسان محللين سياسيين ملأوا الشاشات العربية في الساعات القليلة التي فصلت بين الإعلان عن الانقلاب وفشله، فمنهم من قاس على الانقلابات الأربعة السابقة التي شهدتها تركيا، وتوقّع نجاح محاولة الانقلاب الجديدة ارتباطاً بذلك، معتمداً على منطق تحليل ميكانيكي، لا ينظر إلى كل المياه التي جرت في الحياة التركية على مر العقود السابقة، وهو بالقطع منطق غير علمي، وإنْ صدر عن أستاذ في العلوم السياسية. ووصل الأمر بمحلّل سياسي مصري، من أصحاب أيديولوجية تقديس المؤسسة العسكرية؛ إلى إدانة دعوة أردوغان الشعب التركي للوقوف في وجه قوات الجيش المشاركة في الانقلاب، فتصرفات الجيش، بحسب أمثاله، يجب أن تُقابل بالإذعان والسمع والطاعة، مهما كانت.
قيادي في فصيل يساري فلسطيني علّق: من حفر ربيعاً لأخيه سقط فيه، على اعتبار أن ثورات الشعوب العربية كانت فخاً حضّره أردوغان وغيره. على كل حال، ماذا ننتظر من اليسار الرسمي العربي وقياداته؟
يصرّ هذا الفريق على أن يعيش خارج العصر الراهن، لم يدرك أن العالم بأسره تغيّر، وعالمنا العربي جزءٌ منه، فارتفاع معدلات التعليم في بلدانٍ عربية كثيرة، والقدرة على الولوج بلا قيود للمعلومات، والانفتاح على تجارب الشعوب وثقافاتها التي أتاحتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، خصوصاً ظهور شبكات التواصل الاجتماعي في العقد الماضي، أحدث ذلك كله تغييراً عميقاً في المجتمعات العربية، خصوصاً بين الأجيال الشابة، لم يستوعبه هؤلاء بعد، بمن فيهم من يعتبرون أنفسهم "تقدّميين" (حاشا أن يكونوا كذلك).
وكان هناك فريق ثانٍ رفض الانقلاب لأسباب أيديولوجية، على اعتبار أن النظام الحالي في
تركيا يتوافق معه أيديولوجياً. ظن هؤلاء أن خروج الجماهير التركية الرافضة الانقلاب جاء تأييداً للرئيس رجب طيب أردوغان، وحزبه، ولم يتنبّهوا إلى أن الشعب التركي خرج دفاعاً عن تجربته الديموقراطية، وعن حقه في الاختيار، ورفضاً للعودة إلى الماضي الأسود لتحكّم المؤسسة العسكرية بالدولة. كانت انتفاضة الشعب التركي في وجه الانقلاب العسكري، في المقام الأول، انتفاضة كرامة، بعد أن ظنّ نفر من العسكر أن في وسعهم شطب إرادة الشعب عبر تحريك بضعة دبابات في الشوارع وطائرات في أجواء أنقرة وإسطنبول.
جاء رفض المعارضة التركية، بكامل أطيافها، الانقلاب لافتاً، بمن فيهم حزب الشعب الجمهوري، على الرغم من تطابق خطابه السياسي المُعارض حكم "العدالة والتنمية"، إلى حد بعيد، مع الحيثيات التي ساقها الانقلابيّون مبرراً لانقلابهم. كان موقف المعارضة التركية، بحد ذاته، دليلاً على أن الشعب التركي، بمعظمه، ضد الانقلاب، لا أنصار تيار سياسي واحد فقط.
وصل الأمر ببعض الإسلاميين إلى التهليل عبر مواقع التواصل الاجتماعي لسقوط العلمانية في تركيا حين فشل الانقلاب!. كم يخطئ الإسلاميون العرب، حين يظنون أن أردوغان وحزبه يشاطرونهم العداء للعلمانية، وأنهما يعتنقان الأيديولوجيا نفسها لتيار الإخوان المسلمين في البلدان العربية. ربما من المفيد لهؤلاء أن يُعيدوا الاستماع إلى خطاب أردوغان في جامعة القاهرة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، حين استنكر رفض الإسلاميين العرب العلمانية، ودعاهم إلى اعتناقها.
والغريب أن كلا الفريقين روّجا أن الانقلاب مدعوم أميركياً، كل طرف لأسبابه، رأى الأول أن أميركا تريد حلاً في سورية، وأردوغان هو من يعطل ذلك. واعتبر الثاني أن أميركا صاحبة مصلحة في إسقاط تجربة الحكم الأبرز للإسلام السياسي. سيطرة نظرية المؤامرة على عقول كثيرين ظاهرة تستحق التأمل، وكأن من غير الممكن حصول أي حدث سياسي في أي دولةٍ في العالم، لأسبابٍ داخلية، لا بد من البحث دائماً عن مسبب خارجي، وأميركا "جسمها لبّيس"، بحسب المثل الشعبي الشامي.
أهم الدروس المستفادة من فشل الانقلاب العسكري في تركيا، أولاً؛ أن زمن الانقلابات العسكرية ولّى إلى غير رجعة. ثانياً؛ من سمات العصر الذي نعيشه أن الشعوب أصبحت مُحدِّداً أساسياً في اختيار نظام الحكم ومن يحكم، سواء في البلدان النامية والناشئة والمتقدمة. ثالثاً؛ العامل الخارجي مؤثر بلا شك في عملية التغيير الداخلي. لكن، تبقى العوامل الداخلية الحاسمة. هذه القاعدة، والاستثناء يتحقق في حالة فشل الدولة وسمو الهويات الفرعية لشعبها على الهوية الوطنية الجامعة، كما الحال اليوم في سورية ولبنان والعراق. رابعاً؛ من دروس الانقلاب التركي الفاشل المهمة أن أي انقلاب أو حركة تنشد التغيير لا يمكن لها أن تنجح، إن لم تتوفر لها حاضنة شعبية معتبرة، وهذا درس لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، ومن يؤيدونها، فلو لم تكن لحركة 3 يوليو حاضنة شعبية معتبرة، لما نجحت بالإمساك بالحكم ثلاثة أيام، لا ثلاث سنوات.
أخيراً، يستطيع نظام الحكم الذي يحظى بشرعية شعبية أن ينتصر خلال ساعات على انقلاب عسكري، نفذته قوات مسلحة محترفة، تمتلك دباباتٍ وطائرات مقاتلة حديثة، بينما النظام الفاقد للشرعية الشعبية هو من يفشل طوال خمس سنوات في مواجهة جماعاتٍ مسلحةٍ، لا تضاهيه تسليحاً، ويضطر للاستعانة بمليشيات وجيوش أجنبية فقط، ليحافظ على رقعة الجغرافيا المحدودة من الوطن التي يسيطر عليها.
بارك أنصار الأنظمة الحاكمة وقوى الثورة المضادة الانقلاب، وهلّلوا بتسّرع أرعن لنجاحه المزعوم. وهم معذورون، لا تستوعب عقولهم أن يُقدم جيشٌ على انقلابٍ ويفشل. وبحسب منطق تفكيرهم وتركيبتهم السيكولوجية؛ التغيير شأن عُلوي، تحدّده مؤامرات القوى الدولية الكبرى، والقوى المحلية النافذة التي تربطها مصالح مع تلك الخارجية. أما الشعوب فلا مكان لها في معادلة التغيير بالنسبة لهم، على الرغم من أن منهم من تغنّى عقوداً بالشعوب التي إن أرادت الحياة سيستجيب لها القدر. تلك كانت شعاراتٍ تصلح مادة للبروباغندا السياسية ليس إلّا، فحين أرادت الشعوب العربية الحياة بانت انحيازاتهم المشينة.
وانعكس منطق هذا الفريق على لسان محللين سياسيين ملأوا الشاشات العربية في الساعات القليلة التي فصلت بين الإعلان عن الانقلاب وفشله، فمنهم من قاس على الانقلابات الأربعة السابقة التي شهدتها تركيا، وتوقّع نجاح محاولة الانقلاب الجديدة ارتباطاً بذلك، معتمداً على منطق تحليل ميكانيكي، لا ينظر إلى كل المياه التي جرت في الحياة التركية على مر العقود السابقة، وهو بالقطع منطق غير علمي، وإنْ صدر عن أستاذ في العلوم السياسية. ووصل الأمر بمحلّل سياسي مصري، من أصحاب أيديولوجية تقديس المؤسسة العسكرية؛ إلى إدانة دعوة أردوغان الشعب التركي للوقوف في وجه قوات الجيش المشاركة في الانقلاب، فتصرفات الجيش، بحسب أمثاله، يجب أن تُقابل بالإذعان والسمع والطاعة، مهما كانت.
قيادي في فصيل يساري فلسطيني علّق: من حفر ربيعاً لأخيه سقط فيه، على اعتبار أن ثورات الشعوب العربية كانت فخاً حضّره أردوغان وغيره. على كل حال، ماذا ننتظر من اليسار الرسمي العربي وقياداته؟
يصرّ هذا الفريق على أن يعيش خارج العصر الراهن، لم يدرك أن العالم بأسره تغيّر، وعالمنا العربي جزءٌ منه، فارتفاع معدلات التعليم في بلدانٍ عربية كثيرة، والقدرة على الولوج بلا قيود للمعلومات، والانفتاح على تجارب الشعوب وثقافاتها التي أتاحتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، خصوصاً ظهور شبكات التواصل الاجتماعي في العقد الماضي، أحدث ذلك كله تغييراً عميقاً في المجتمعات العربية، خصوصاً بين الأجيال الشابة، لم يستوعبه هؤلاء بعد، بمن فيهم من يعتبرون أنفسهم "تقدّميين" (حاشا أن يكونوا كذلك).
وكان هناك فريق ثانٍ رفض الانقلاب لأسباب أيديولوجية، على اعتبار أن النظام الحالي في
جاء رفض المعارضة التركية، بكامل أطيافها، الانقلاب لافتاً، بمن فيهم حزب الشعب الجمهوري، على الرغم من تطابق خطابه السياسي المُعارض حكم "العدالة والتنمية"، إلى حد بعيد، مع الحيثيات التي ساقها الانقلابيّون مبرراً لانقلابهم. كان موقف المعارضة التركية، بحد ذاته، دليلاً على أن الشعب التركي، بمعظمه، ضد الانقلاب، لا أنصار تيار سياسي واحد فقط.
وصل الأمر ببعض الإسلاميين إلى التهليل عبر مواقع التواصل الاجتماعي لسقوط العلمانية في تركيا حين فشل الانقلاب!. كم يخطئ الإسلاميون العرب، حين يظنون أن أردوغان وحزبه يشاطرونهم العداء للعلمانية، وأنهما يعتنقان الأيديولوجيا نفسها لتيار الإخوان المسلمين في البلدان العربية. ربما من المفيد لهؤلاء أن يُعيدوا الاستماع إلى خطاب أردوغان في جامعة القاهرة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، حين استنكر رفض الإسلاميين العرب العلمانية، ودعاهم إلى اعتناقها.
والغريب أن كلا الفريقين روّجا أن الانقلاب مدعوم أميركياً، كل طرف لأسبابه، رأى الأول أن أميركا تريد حلاً في سورية، وأردوغان هو من يعطل ذلك. واعتبر الثاني أن أميركا صاحبة مصلحة في إسقاط تجربة الحكم الأبرز للإسلام السياسي. سيطرة نظرية المؤامرة على عقول كثيرين ظاهرة تستحق التأمل، وكأن من غير الممكن حصول أي حدث سياسي في أي دولةٍ في العالم، لأسبابٍ داخلية، لا بد من البحث دائماً عن مسبب خارجي، وأميركا "جسمها لبّيس"، بحسب المثل الشعبي الشامي.
أهم الدروس المستفادة من فشل الانقلاب العسكري في تركيا، أولاً؛ أن زمن الانقلابات العسكرية ولّى إلى غير رجعة. ثانياً؛ من سمات العصر الذي نعيشه أن الشعوب أصبحت مُحدِّداً أساسياً في اختيار نظام الحكم ومن يحكم، سواء في البلدان النامية والناشئة والمتقدمة. ثالثاً؛ العامل الخارجي مؤثر بلا شك في عملية التغيير الداخلي. لكن، تبقى العوامل الداخلية الحاسمة. هذه القاعدة، والاستثناء يتحقق في حالة فشل الدولة وسمو الهويات الفرعية لشعبها على الهوية الوطنية الجامعة، كما الحال اليوم في سورية ولبنان والعراق. رابعاً؛ من دروس الانقلاب التركي الفاشل المهمة أن أي انقلاب أو حركة تنشد التغيير لا يمكن لها أن تنجح، إن لم تتوفر لها حاضنة شعبية معتبرة، وهذا درس لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، ومن يؤيدونها، فلو لم تكن لحركة 3 يوليو حاضنة شعبية معتبرة، لما نجحت بالإمساك بالحكم ثلاثة أيام، لا ثلاث سنوات.
أخيراً، يستطيع نظام الحكم الذي يحظى بشرعية شعبية أن ينتصر خلال ساعات على انقلاب عسكري، نفذته قوات مسلحة محترفة، تمتلك دباباتٍ وطائرات مقاتلة حديثة، بينما النظام الفاقد للشرعية الشعبية هو من يفشل طوال خمس سنوات في مواجهة جماعاتٍ مسلحةٍ، لا تضاهيه تسليحاً، ويضطر للاستعانة بمليشيات وجيوش أجنبية فقط، ليحافظ على رقعة الجغرافيا المحدودة من الوطن التي يسيطر عليها.