شبح السويس .. أميركا على خطى بريطانيا
فتحت الأزمة المالية العالمية في العام 2008 أبواب عصر سياسي دولي جديد، سِمَته الأساسية اختفاء القوة أو القوى العالمية العظمى (Great Powers) ذات الهيمنة الكونية، لصالح تشكل نظام عالمي جديد تقوده قوى عالمية (World Powers) وإقليمية كبرى (Major Powers). هذا النظام الجديد في مرحلة التشكل والتبلور، ونحن اليوم نعيش مرحلة من عدم الوضوح، وسيولة القوة والسياسة الدولية، تشبه، إلى حد ما، فترة تبلور النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، حتى كشفت أزمة السويس، 1956، عن مراكز القوى الدولية فيه وحدودها بشكل حاسم.
أزمة السويس، أو ما عرف بالعدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، التي مرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ذكراها الرابعة والستون؛ كانت حرباً صغيرة نسبياً بالمعنى العسكري، إلا أن نتائجها السياسية الهامة جعلت أدبيات السياسة الدولية تعتبرها واحدة من أهم أحداث النصف الثاني من القرن العشرين السياسية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، فتلك الأزمة كانت كاشفةً لتغيّر موازين القوى الدولية ما بعد الحرب العالمية الثانية، من تحرّك مركز الثقل السياسي للغرب عبر الأطلسي، وانتقاله إلى الولايات المتحدة الأميركية، لتكون هذه الأخيرة القوة العظمى الجديدة إلى جانب الاتحاد السوفييتي، كذلك كشفت أن الاستعمار القديم قد مضى زمنه، وما عاد ممكناً له أن يستمر، وهي الحقيقة التي كانت فرنسا تحديداً تعاندها بشدة.
أدركت بريطانيا مبكراً أنها ما عادت قادرةً على الحفاظ على إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس، فتكاليف الإمبراطورية أكبر بكثير من قدراتها الاقتصادية
أدركت بريطانيا مبكّراً أنها ما عادت قادرةً على الحفاظ على إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس، فتكاليف الإمبراطورية أكبر بكثير من قدراتها الاقتصادية، في وقتٍ أصبح من الواضح فيه أن الهيمنة الأميركية قادمة لا محالة. كما أن دروس التاريخ واضحة في هذا الصدد، فالتوسع فوق حدود القدرة والاستطاعة أصاب الإمبراطوريات القديمة في مقتل، وكان لها في مصير الإمبراطورية الرومانية التي مزّقتها النزعة الإمبراطورية التوسعية.. عبرة، فشرعت في انسحاب منظم، وإعادة ترتيب علاقاتها مع مستعمراتها بما يحافظ لها على نوع من الهيمنة الاقتصادية والسياسية، من دون وجود عسكري مباشر، وهذا كان يقتضي الدخول في مساوماتٍ معينة مع النخب المحلية التي ستستلم السلطة بعد الاستعمار. كان هذا السلوك ذكياً وحكيماً بالمعنى النظري، لكن الأمور عملياً لم تسر بسلاسة، فليس سهلاً الإقرار بفقدان المكانة العالمية التي شغلتها قرنا أو أزيد. وخلال الحرب العالمية الثانية، وعى رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل أن قيادة المعسكر الغربي باتت في يد الولايات المتحدة، وأدرك حقيقة أن على بلاده أن تدير مصالحها العالمية في ظل الهيمنة الأميركية. لم تأخذ هذه العقلانية طريقها بسلاسة لتكون سياسة دولة، فالسياسات الاستراتيجية للدول لا تتخذ بقراراتٍ فوقية، بل هي نتيجة عملية بناءٍ تمرّ بمراحل حوار ونقاش، تتخللها منازعاتٌ ومعارضاتٌ وممانعات. تانك المعارضة والممانعة والإنكار للواقع الجديد وجدتا طريقهما إلى الحكم بحكومة خليفة تشرشل، أنتوني إيدن، التي حاولت إحياء الزمن الإمبراطوري الغابر، إلا أن المحاولة تحطّمت سريعاً على صخور حرب السويس، التي انتهت بنتائج كارثية على الحكومة البريطانية، ودفنت إلى الأبد حلم الإبقاء على موقع القوة العالمية العظمى. وكانت فرنسا تحارب للحفاظ على وضعها الاستعماري ذي الطابع الاستيطاني في الجزائر، وكانت تعاني بشدة من ضربات المقاومة الجزائرية، ووجدت في حرب السويس فرصةً للقضاء على نظام الرئيس جمال عبد الناصر الداعم الرئيس للثورة في الجزائر، ومارست إلحاحاً شديداً على حكومة إيدن لإقناعها بدخول الحرب، إلى درجة أن رئيس الوزراء الفرنسي حينها، جان موليه، عرض على إيدن الوحدة الاندماجية بين البلدين، وانضواء فرنسا تحت التاج البريطاني، أو أن تصبح عضوا في الكومنولث، بحسب وثائق كشفتها "بي بي سي" عام 2007.
تشكل حالة التراجع الإمبراطوري، المشحونة بالقلق والريبة وعدم التأكد، بيئة خصبة لنمو النزعات الشعبوية واللاعقلانية. وكما يبدو، الديمقراطية ودولة المؤسسات لا تحميان من صعود نخبة ضعيفة إلى سدة الحكم، لكنهما على الأقل تحدّان من الأثر الضار لذلك، وهو ما يمكن استنتاجه من دورس التاريخ في أزمة السويس.. كذلك التاريخ الراهن أيضاً.
وجدت الولايات المتحدة نفسها، منذ أزمة الرهن العقاري عام 2007، في الوضع الذي وجدت بريطانيا نفسها فيه في النصف الأول من القرن العشرين
تبدو الظروف والأجواء الدولية اليوم مشابهة، إلى حد كبير، لتلك التي سادت قبل أكثر من ستين عاماً، فنحن نشهد صعود قوى دولية جديدة، في مقدمتها الصين، في ظل تراجع القوة الأميركية وعدم قدرتها على لعب دور الميغا إمبريالية الذي لعبته منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، بحسب توصيف المفكر المغربي المهدي المنجرة، لكن المختلف، هذه المرة، أن من غير المرجّح أن تستطيع دولة بعينها أن تلعب هذا الدور عقودا مقبلة.
وجدت الولايات المتحدة نفسها، منذ أزمة الرهن العقاري عام 2007 والأزمة المالية العالمية بعدها بعام، في الوضع الذي وجدت بريطانيا نفسها فيه في النصف الأول من القرن العشرين. خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية، وهي تنتج سنوياً أكثر من نصف ما ينتجه العالم أجمع، ثم أخذت النسبة تتراجع، حتى وصلت إلى 20.37% عام 1990 إبّان انهيار الاتحاد السوفييتي، وذلك بطريقة قياس الناتج المحلي حسب القيمة الشرائية (ppp)، الأكثر دقة وتعبيراً عن القوة الاقتصادية الحقيقية للدول. وخلال عقد التسعينيات، توقف تراجع نسبة مساهمة أميركا من الناتج المحلي العالمي (تعد مؤشّراً جيداً، وليس وحيداً، لقياس مقدار هيمنتها على الاقتصاد العالمي) بفعل المزايا الاقتصادية التي حصلت عليها من اختراق أسواق دول المعسكر الاشتراكي المنهار، وانتهى ذلك العقد والولايات المتحدة تنتج 20.90% مما ينتجه العالم.
التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أن من الصعب عدم رؤية تشابه بين المرحلة التي حصلت فيها أحداث أزمة السويس والمرحلة الراهنة
في وقتٍ كانت هيمنة المعسكر الغربي على الاقتصاد العالمي شبه مطلقة، ومجموعة دول الاقتصادات الناشئة لا تزال في عداد الدول النامية باقتصادياتٍ هزيلة نسبياً. ثم جاءت الأزمة المالية العالمية، ليبدأ التراجع الحاد لهيمنة الاقتصاد الأميركي، حيث تراجعت نسبة الناتج المحلي الأميركي من الناتج العالمي خلال الأعوام (2007، 2008، 2009، 2010) على التوالي إلى (18.43، 17.17، 17.23، 16.78)، واستمر التراجع حتى وصل إلى 15.8% عام 2019 وفق حسابات البنك الدولي. جاء ذلك في ظل صعود الاقتصادات الناشئة، بقيادة الصين التي سجلت عام 2019 ناتجاً محلياً فاق 23 تريليون دولار (حسب القوة الشرائية)، أي نحو 17.34% من الناتج العالمي، وبذلك أصبحت الاقتصاد الأكبر عالمياً بفارق ثلاثة تريليونات دولار عن الولايات المتحدة، وهي المرّة الأولى في التاريخ الحديث التي يكون فيها الاقتصاد الأكبر في العالم خارج الفضاء الحضاري الغربي.
على الرغم من القطع بأن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أن من الصعب عدم رؤية تشابه بين المرحلة التي حصلت فيها أحداث أزمة السويس والمرحلة الراهنة، خصوصا من جهة إدارة الحكومة البريطانية عملية إعادة التموضع على الساحة الدولية في عهدي تشرشل وإيدن، إبّان أزمة السويس، وكذلك إدارة العملية نفسها في عهدي إدارتي الرئيسين أوباما وترامب. وقد عملت إدارة أوباما على عقد تفاهمات في أقاليم العالم المختلفة، الحيوية لمصالحها، مع القوى الإقليمية الأهم والأكبر والأقرب لها سياسياً، بحيث تهيمن تلك القوى على أقاليمها بشراكة وتحالف مع الولايات المتحدة، كما عقدت تفاهماتٍ أو اتفاقات لإنهاء حالة الخصومة مع قوى أخرى مهمة إقليمياً، كما فعلت في حالة الاتفاق النووي الإيراني، أو بالتقارب مع كوبا.
في السابق، كانت أميركا تعتمد على الوجود المباشر، وعلاقات تبعية، أو في أحسن الأحوال علاقات وكالة، خصوصا في العالم الثالث. وكانت علاقات التبعية والوكالة تستدعي وجوداً عسكرياً مباشراً وحضوراً فاعلاً في السياسة الداخلية لدول تلك الأقاليم، وهو ما بات مكلفاً للغاية مع تراجع الهيمنة الاقتصادية. ولكن إدارة أوباما ظلت متردّدة وغير حاسمة، وواجهت، كما حكومة تشرشل، معارضة وممانعة، ثم جاءت إدارة ترامب لتحاول "إعادة أميركا عظيمة مجدّداً"، وهو الشعار الشعبوي الذي رفعته حملة ترامب الانتخابية، وانتهت المحاولة بضرب صورة الإمبراطورية ونظامها السياسي، التي اهتزت بشدة، سواء على الصعيد الداخلي أو العالمي، في تشابهٍ لافتٍ مع ما أصاب صورة الإمبراطورية البريطانية إبّان أزمة السويس.
ما يجري على المسرح الدولي اليوم هو تعويم للهيمنة وانتفاء القطبية العالمية ولو لفترة، في انتظار حدثٍ يقشع سحابة الغبار الناجمة عن حركة القوى صعوداً وهبوطاً، لتتضح ملامح العالم الجديد وتترسّم قوانين الهيمنة الحاكمة فيه، المرجّح أن تكون لقوى عالمية كبرى، متفاهمة مع أخرى إقليمية كبرى.