04 يناير 2021
"هولوغرام" صفقة القرن
بعد أشهر قليلة من وصوله إلى البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن لديه خطة للسلام في الشرق الأوسط سماها الإعلام "صفقة القرن". لم يعرف أحد عنها شيء سوى اسمها، ولكن أصواتا عربية خرجت مرحبة ومشجعة الرئيس الأميركي الجديد للمضي في تنفيذ صفقته المجهولة. وعلى مدى نحو عامين، اتسع الجدل، وتصاعدت المواقف. خرجت دعواتٌ إلى التصدّي والتكتل في وجه صفقة القرن، وثانية للتعاون وثالثة متحفظة، لكن "الصفقة" بقيت مجهولة، لا يُعرف عنها إلا ما يتداوله الإعلام من تسريباتٍ أو ما يمكن استشفافه من تصريحاتٍ مبهمة لمسؤولين أميركيين. وأخيراً، أكد مستشار ترامب وصهره، جاريد كوشنر، أن الإعلان عن الخطة سيكون قريباً. وتلا ذلك الإعلان عن مؤتمر لطرح "الصفقة" في البحرين، ليتضح أنه مجرّد ورشة عمل اقتصادية، تبحث الاستثمار في الضفة الغربية وقطاع غزة، أيضاً من دون وضوح جدول أعمال الورشة، ولا من سيحضرها، إلا عبر تسريباتٍ صحافية وتصريحات مسؤولين، كما العادة في كل ما يتعلق بـ"صفقة القرن"، منذ الإعلان عن وجودها.
في ظل حالة الضبابية والإبهام، المتعمدة والمخططة على الأرجح، التي تحيط بـ"صفقة القرن"، لا بد من العودة إلى سؤال جوهري وأساسي: هل الإدارة الأميركية الحالية يمكن أن تطرح بالأساس أي مشروع سياسي حقيقي لحل القضية الفلسطينية؟ والمقصود بالحل السياسي هذا الذي يستند إلى القانون الدولي، بما يشتمل عليه من قرارات واتفاقيات دولية، والذي لا بد أن يفضي إلى دولة فلسطينية، وحل لقضية اللاجئين؟ هذا بغض النظر عن عدالة هذا الحل وقبول الفلسطينيين به من عدمه... إنّ محاولة الإجابة يجب أن تأخذ بالاعتبار تطورات مؤشرة وكاشفة، حصلت أخيرا، مستندة إلى الواقع الموضوعي في فلسطين والمنطقة:
أولاً، دعوة المبعوث الأميركي للسلام في الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، ومن داخل الأمم
المتحدة، إلى حل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ولم تأت هذه الدعوة من فراغ، بل جاءت في ظرفٍ افتقدت فيه قضية اللاجئين الفلسطينيين كثيراً من ثقلها الديمغرافي، بعد تدمير مخيمات سورية وتهجير سكانها، من النظام وداعميه ومحرّكيه الدوليين، وعصابات "المعارضة" الإسلامية ومن خلفها داعميها ومحرّكيها، على حد سواء. والتهجير الصامت المنظم للاجئين الفلسطينيين في لبنان الذين اصبح عددهم، حسب آخر إحصاء رسمي، نحو 170 ألفاً فقط، هذا التهجير الذي يجري على قدم وساق بمشاركة وتواطؤ من جميع أطياف النظام السياسي الطائفي اللبناني، بيمينيَّيه، المسيحي والإسلامي، وهذا الأخير بيمينيَّيه السني والشيعي.
كما خسرت قضية اللاجئين عمقها السياسي، بتهميش القيادة الفلسطينية المهيمنة منظمة التحرير، الإنجاز الوطني السياسي الأهم للشعب الفلسطيني، لصالح سلطة حكم ذاتي أو ما تبقى منها.
ثانياً، تصريحات غرينبلات بشأن المستوطنات في الضفة الغربية التي اعتبر أنها ليست عقبة في وجه اتفاق سلام. ولم يأت هذا الموقف الأميركي الخطير المستجد من فراغ، بل هو الثمن المُر لخطيئة القيادة التاريخية للثورة الفلسطينية المعاصرة، بتوقيعها على اتفاقيات أوسلو، وقبولها سلطة ذاتية قبل الوصول إلى حل نهائي.
ثالثاً، موجة التطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل، مترافقة مع تصريحات سياسية وإعلامية عربية عن تراجع أهمية القضية الفلسطينية، وأن الخطر على الدول العربية لا يأتي من إسرائيل، بل من إيران، ما يعني موضوعياً أن العمق العربي للقضية الفلسطينية أصبح اليوم ضحلاً أكثر من أي وقت مضى.
رابعاً، القرار الأميركي الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، ما يعني تحولاً جذرياً في نظرة الولايات المتحدة إلى النظام الدولي، وأطره القانونية والسياسية، وأن هذا النظام وأطره تراجع وزنها النسبي محدّدا أو ناظما، حتى بالمعنى الشكلي، لأميركا في تحرّكها وفعلها في السياسة الدولية.
خامساً، التوجّه الأميركي للتراجع والانسحاب السياسي والعسكري من ساحات جيوسياسية كثيرة في العالم، والميل إلى تقليل التدخل المباشر، والاتجاه إلى زيادة الاعتماد على الوكلاء المحليين. ظهر هذا الأمر واضحا مع بدء إدارة ترامب، الذي تراجعت الولايات المتحدة في عهده عن الاتفاق النووي مع إيران، وانقلبت على تطوير العلاقات مع كوبا، ووجهت بالانسحاب من سورية بأسرع وقت. وهذا التوجه إن بدا جلياً في عهد ترامب، بسبب الأسلوب الخشن في تطبيقه، إلا أنه بدأ عملياً منذ الولاية الثانية لأوباما، لأسبابٍ لها علاقة بالتوازن الاستراتيجي الدولي، لا يتسع المجال للحديث عنها. لكن بالمحصلة، إن قوة عظمى تقوم بإعادة انتشار عالمي ليست معنيةً باتفاق سياسي يتطلب منها حضوراً طويل الأمد لتوفير الضمانات له، في منطقةٍ لم تعد في مقدمة أولوياتها، خصوصا مع صعود الصين الذي جعل شرق آسيا الساحة الأكثر أهمية للولايات المتحدة. ومن الدلائل على ذلك دعم إدارة ترامب مشروع حلف ناتو عربي، يضمن المصالح الأميركية في المنطقة بواسطة قوات الحلفاء.
إذن، طالما من المستبعد أن تطرح الإدارة الأميركية مشروعاً سياسياً جديداً، فما هي "صفقة
القرن"؟ هي ببساطة مجرد "هولوغرام" سياسي، والهولوغرام هو تصوير تجسيمي، يُظهر صورة ثلاثية الأبعاد لجسمٍ ما على مسرح، فيبدو كأنه واقعي، وهو ليس إلا وهم. صفقة القرن هي مجرد عملية إيهام بحل سياسي، لكنها في الواقع تثبيت للّاحل واللّااتفاق، وإخراج للسياسة وقواعد القانون الدوليين من المعادلة، لنبقى أمام أمر واقع، ساهمنا نحن للأسف في إيجاده، ويجري العمل الآن على شرعنته. لهذا السبب، بتنا نسمع اليوم خطاباً غير معهود، وعالي النبرة، من قيادات فلسطينية وعربية ضد صفقة القرن، أو مؤكّدة على مركزية القضية الفلسطينية، فأن ترفع عقيرتك غاضباً في وجه اللاشيء، أو تعلن دعمك للّاواقعي، أمر لا يتطلب أي شجاعة، وليس فيه جرأة، ولن يتحقق منه شيء، حتى على مستوى تسجيل موقف.
الواقع الذي أحدثه "أوسلو"، والانقسام الفلسطيني، وتغييب دور منظمة التحرير وطمسه، والصمت على جريمة الإبادة بحق اللاجئين الفلسطينيين، لا بل التواطؤ معها أحيانا، والتراجع عن الدعم العربي للقضية الفلسطينية الذي تقونن في ما يعرف بمبادرة السلام العربية، ثم التطبيع العلني مع إسرائيل، كل ذلك هو صفقة القرن الحقيقية. وعلى من يريد أن يعمل ضد "الصفقة" أن يناضل ضد ذلك كله، أما التصويب على "الهولوغرام" الأميركي فلن يعود بأي نتيجة.
في ظل حالة الضبابية والإبهام، المتعمدة والمخططة على الأرجح، التي تحيط بـ"صفقة القرن"، لا بد من العودة إلى سؤال جوهري وأساسي: هل الإدارة الأميركية الحالية يمكن أن تطرح بالأساس أي مشروع سياسي حقيقي لحل القضية الفلسطينية؟ والمقصود بالحل السياسي هذا الذي يستند إلى القانون الدولي، بما يشتمل عليه من قرارات واتفاقيات دولية، والذي لا بد أن يفضي إلى دولة فلسطينية، وحل لقضية اللاجئين؟ هذا بغض النظر عن عدالة هذا الحل وقبول الفلسطينيين به من عدمه... إنّ محاولة الإجابة يجب أن تأخذ بالاعتبار تطورات مؤشرة وكاشفة، حصلت أخيرا، مستندة إلى الواقع الموضوعي في فلسطين والمنطقة:
أولاً، دعوة المبعوث الأميركي للسلام في الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، ومن داخل الأمم
كما خسرت قضية اللاجئين عمقها السياسي، بتهميش القيادة الفلسطينية المهيمنة منظمة التحرير، الإنجاز الوطني السياسي الأهم للشعب الفلسطيني، لصالح سلطة حكم ذاتي أو ما تبقى منها.
ثانياً، تصريحات غرينبلات بشأن المستوطنات في الضفة الغربية التي اعتبر أنها ليست عقبة في وجه اتفاق سلام. ولم يأت هذا الموقف الأميركي الخطير المستجد من فراغ، بل هو الثمن المُر لخطيئة القيادة التاريخية للثورة الفلسطينية المعاصرة، بتوقيعها على اتفاقيات أوسلو، وقبولها سلطة ذاتية قبل الوصول إلى حل نهائي.
ثالثاً، موجة التطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل، مترافقة مع تصريحات سياسية وإعلامية عربية عن تراجع أهمية القضية الفلسطينية، وأن الخطر على الدول العربية لا يأتي من إسرائيل، بل من إيران، ما يعني موضوعياً أن العمق العربي للقضية الفلسطينية أصبح اليوم ضحلاً أكثر من أي وقت مضى.
رابعاً، القرار الأميركي الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، ما يعني تحولاً جذرياً في نظرة الولايات المتحدة إلى النظام الدولي، وأطره القانونية والسياسية، وأن هذا النظام وأطره تراجع وزنها النسبي محدّدا أو ناظما، حتى بالمعنى الشكلي، لأميركا في تحرّكها وفعلها في السياسة الدولية.
خامساً، التوجّه الأميركي للتراجع والانسحاب السياسي والعسكري من ساحات جيوسياسية كثيرة في العالم، والميل إلى تقليل التدخل المباشر، والاتجاه إلى زيادة الاعتماد على الوكلاء المحليين. ظهر هذا الأمر واضحا مع بدء إدارة ترامب، الذي تراجعت الولايات المتحدة في عهده عن الاتفاق النووي مع إيران، وانقلبت على تطوير العلاقات مع كوبا، ووجهت بالانسحاب من سورية بأسرع وقت. وهذا التوجه إن بدا جلياً في عهد ترامب، بسبب الأسلوب الخشن في تطبيقه، إلا أنه بدأ عملياً منذ الولاية الثانية لأوباما، لأسبابٍ لها علاقة بالتوازن الاستراتيجي الدولي، لا يتسع المجال للحديث عنها. لكن بالمحصلة، إن قوة عظمى تقوم بإعادة انتشار عالمي ليست معنيةً باتفاق سياسي يتطلب منها حضوراً طويل الأمد لتوفير الضمانات له، في منطقةٍ لم تعد في مقدمة أولوياتها، خصوصا مع صعود الصين الذي جعل شرق آسيا الساحة الأكثر أهمية للولايات المتحدة. ومن الدلائل على ذلك دعم إدارة ترامب مشروع حلف ناتو عربي، يضمن المصالح الأميركية في المنطقة بواسطة قوات الحلفاء.
إذن، طالما من المستبعد أن تطرح الإدارة الأميركية مشروعاً سياسياً جديداً، فما هي "صفقة
الواقع الذي أحدثه "أوسلو"، والانقسام الفلسطيني، وتغييب دور منظمة التحرير وطمسه، والصمت على جريمة الإبادة بحق اللاجئين الفلسطينيين، لا بل التواطؤ معها أحيانا، والتراجع عن الدعم العربي للقضية الفلسطينية الذي تقونن في ما يعرف بمبادرة السلام العربية، ثم التطبيع العلني مع إسرائيل، كل ذلك هو صفقة القرن الحقيقية. وعلى من يريد أن يعمل ضد "الصفقة" أن يناضل ضد ذلك كله، أما التصويب على "الهولوغرام" الأميركي فلن يعود بأي نتيجة.