05 نوفمبر 2024
من المشنقة إلى المحرقة
أينتقل الإجرام بالوراثة؟ أوَيولد الإنسانُ وفي جيناته سفالة من أنجبه، حقارته، قسوته، وقدرته على ارتكاب الفظاعات؟ ما الذي يمنع ملكا ورث عن والده الطاغية أن يكون نسخةً أفضل من أبيه؟ أن يكون أكثر رأفةً، أقل بطشا، أكثر قدرةً على التفكير في مصالح الناس؟ هل يورَّث حبُّ السلطة وحبُّ البطش، كما تورَّث جيناتُ الشكل والصحّة والذكاء؟
غالبا ما أفكّر في أولئك الوحوش الكبار الذين أنجبوا وحوشا صغيرة، وضعتهم في الجيب، بعدما برهنت بأنها أكثر ضراوةً وفتكا منهم. كأنما هو سباقٌ على أشدّه بين الأبناء والآباء، هدفه الفوز بلقب الأكثر عسفا وقتلا وتوحشا. الأمثلة في عالمنا العربي عديدةٌ، ويكفي في هذا الصدد أن نتذكّر موضة "التوريث" التي انتقلت من الممالك إلى "الجمهوريات"، وكل ما جرى تعديله وتجاوزه من دساتير لإتاحة "انتخاب" الابن خلفا للأب. هذا ما جرى في سورية الأسد، وفي مصر حسني مبارك، وليبيا القذافي، وعراق صدّام حسين، حيث أُعدّ الأبناء لوراثة آبائهم: باسل الأسد في سورية، جمال مبارك في مصر، وسيف الإسلام القذافي في ليبيا... إلا أن يد القدر تدخلّت، فأودت بحياة الأول ليحلّ مكانه أخوه بشار، فيما لم تُعط للآخرين فرصة إثبات أحقيتهم بنيل اللقب، بعد أن عصفت بهم رياح "الربيع العربي"، ولو أن تورّطَهم وسكوتَهم عن كل ما ارتكبه آباؤهم من "إنجازات" يمنحنا طعما أوّل عمّا كان يمكن أن يصبحوا عليه.
وقد يقول قائلٌ إن من ذاق السلطة والنفوذ لا يستطيع التخلي عنهما، إن من استطعم الدم سيطلب منه المزيد، وإن "الورثة" المساكين محكومون بمصائرهم، ولا يملكون أي قرار سوى المضيّ قدما، مثبتين أنهم أهلٌ للاهتمام بالتركة، ولتحقيق "إنجازاتٍ" تتجاوز، في براعتها وجديدها، ما سبق أن سُجّل للوالد من مآثر. ففي الحالة السورية، على سبيل المثال لا الحصر، يُجمع المراقبون على أن الابن، برغم شبابه وقلة خبرته وعدم تهيئته لاستلام مهامّ كهذه، قد تجاوز الأب بأشواط. وما التقارير التي أصدرتها منظمة العفو الدولية عن سجن صيدنايا، نموذجاً لسياساته في البلاد، (وسبق أن أشرنا إليه في هذي الزاوية، مستخدمين المسمّى الذي أطلقته المنظمة، "المسلخ البشري")، سوى الدليل الساطع على مقدرة الابن على إنهاء حياة 13 ألف قتيل من فتيان ورجال، جرى شنقهم سرّيا وعشوائيا، أضيف إليه أخيرا برهانٌ أقوى عن وجود محرقةٍ هدفها التخلّص من الجثث المتراكمة والمتوافدة بوتيرة تفوق قدرة المدافن الجماعية على احتوائها.
أجل، القاتل يقتل من دون سؤال، بيُسرٍ واقتضاب، مع محاكماتٍ شكلية لا تتعدّى ثلاث دقائق، أو حتى من دون محاكمات. العدد كبير ونحن لا نحتاج إضاعة الوقت. احتفالات الإعدام شنقا، هي الأفضل والأوفر. الرصاص مكلفٌ، وقد لا يصيب مقتلا من الرمية الأولى. الشنق لا يحتاج أكثر من حبل. نضرب الكرسي، فتتدلّى الأجسادُ وتنكسر الرقاب. ومن كان خفيف الوزن، كحال الفتيان، نتعلّق به كي نشدّه نزولا.
حسنا. لكن، أتظنونه أمرا سهلا تدبّر أمر آلاف الجثث؟ الجثث تتحلّل بعد أيام، وفي الصيف، بعد يوم أو يومين. تفوح روائحها، والحفر لدفنها في الأرض مضنٍ فعلا وغير حميد. لا بأس. نستلهم ما فعله أصدقاؤنا النازيون باليهود. نبني محرقة! أجل. ليتك فعلت ذلك يا أبي في حماة. محرقة تحوّل الجثثَ إلى لا شيء، تحوّلها رمادا، الرماد خفيفٌ ويطير، يتبخر، كأنه ما كان. ياه، كيف لم يخطر لنا ذلك من قبل. نشنق بأقل تكلفة، ثم نحرق على الفور. هكذا لا يكون لدينا مشكلة تخزين. والأهم من ذلك كلّه، تختفي كل الآثار. لم نرهم. من يكونون؟ عمّ تتحدثون؟ تتهموننا هكذا؟ وأين هو البرهان؟ بَـحْ، طار البرهان. ضروري أن نحفظ خط الرجعة، في ما لو... دعونا من التشاؤم. التشاؤم للضعفاء. للحقراء. للسفلة الذين يطالبون بحدٍّ أدنى من الكرامة والحرية. لمن يطالبون بإقصائنا عن الحكم... حقا؟ حبالٌ، لا نحتاج أكثر من حبالٍ ونار. مشانق ومحارق، وغطّ الحمام، طار الحمام.