مفاجأة عباس الصادمة..
لم تكد الحرب على غزة تضع أوزارها، حتى اكتشف الفلسطينيون سريعاً أن هناك ما يهدد فرص تطبيق الاتفاق الذي أفضى إلى وقف إطلاق النار في القاهرة، وتضمن موافقة إسرائيلية مبدئية على رفع الحصار. ومما يثير الإحباط أن بعض مظاهر سلوك قيادة السلطة الفلسطينية التي تتولى التفاوض باسم الجانب الفلسطيني تثير شكوكاً ثقيلة بشأن مدى جديتها في إغاثة غزة وأهلها، وتكرس انطباعاً بأن قيادة السلطة تمهد الأرضية لتأجيل الشروع في إعادة إعمار القطاع، تحت قائمة ذرائع ومسوغات غير موضوعية، من دون أدنى اكتراث بمشاعر مئات آلاف الفلسطينيين الذين فرضت عليهم حرب طاحنة، قتل فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 2100 منهم، وجرح أكثر من عشرة آلاف آخرين، ناهيك عن تدمير آلاف المنازل والمؤسسات وإلحاق أضرار هائلة بالبنى التحتية الأساسية.
هناك ما يبعث على الريبة بأن السلطة الفلسطينية تبدو مستعدة للتجاوب مع مخططات إسرائيلية معلنة، تهدف إلى توظيف الحرب في توفير الظروف التي قد تفضي إلى تجفيف منابع المقاومة في القطاع، عبر محاولة إقناع الفلسطينيين ببؤس الرهان على هذه المقاومة وعوائدها. وإلا كيف يمكن للمرء أن يتفهم أن إسرائيل تستند في رفضها مطالب المقاومة الرئيسة إلى حقيقة أن قيادة السلطة الفلسطينية تشاركها الموقف نفسه من هذه المطالب. فعلى سبيل المثال، يبرر وزير الحرب الصهيوني، موشيه يعلون، معارضة حكومته تدشين مطار وميناء في غزة، برفض السلطة الفلسطينية ومصر هذا المطلب. وتضفي سلسلة تصريحات نسبت للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بعيد الإعلان عن وقف إطلاق النار صدقية على المخاوف بأن قيادة السلطة الفلسطينية منخرطة في مخطط صهيوني عربي، يهدف إلى محاولة إرساء بيئة سياسية أمنية في قطاع غزة، تشبه، إلى حد كبير، البيئة السائدة في الضفة الغربية، والتي تقوم على مأسسة التعاون الأمني بين السلطة وسلطات الاحتلال. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للمرء أن يتفهم رفض عباس دفع رواتب موظفي حكومة غزة التي تبرعت بها دولة قطر، حتى بعد أن سحبت إسرائيل اعتراضها على دخول الأموال، وقد مضى أكثر من عام، من دون أن يحصل هؤلاء الموظفون على رواتبهم، على الرغم من أنهم يمارسون أعمالهم بانتظام، في حين يتم دفع رواتب للموظفين الذين استنكفوا عن العمل، بناءً على تعليمات السلطة الفلسطينية. وفي وقت يمضي فيه مئات آلاف الفلسطينيين الذين دمر الاحتلال منازلهم، في أثناء الحرب، أوقاتهم في مراكز الإيواء في مدارس "أونروا"، فإن عباس يشترط، قبل البدء في مشاريع إعادة الإعمار، التخلص مما أسماها "حكومة الظل" التي شكلتها حركة حماس في قطاع غزة.
ويدرك عباس أنه لا وجود لحكومة ظل في قطاع غزة، بعد أن وقعت حركتا فتح وحماس على اتفاق المصالحة، وتم تشكيل حكومة الوفاق الوطني التي يفترض أن تكون مسؤولة عن قطاع غزة والضفة الغربية، على حد سواء. وإن كانت ثمة مخاوف تساور عباس من وجود مثل هذه الحكومة، فليوعز إلى حكومة رامي الحمد الله بالقدوم إلى قطاع غزة، ومزاولة دورها كاملاً، وفي حال تم التشويش بأي شكل على دور هذه الحكومة وأدائها، فبالإمكان تحميل "حماس" المسؤولية عن إعاقة مشاريع إعادة الإعمار. مع العلم أن الحركة أعلنت أنه لم يعد لها أية علاقة بإدارة شؤون قطاع غزة.
الإجراء الطبيعي المتوقع من قيادة وطنية مسؤولة أن تسارع، فور انتهاء الحرب، إلى نقل مقرها الرسمي، مؤقتاً، إلى قطاع غزة، للوقوف إلى جانب الجماهير التي يفترض أنها تمثلها في هذه الظروف المأساوية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إن كان الطرف الفلسطيني الذي يفترض أن يمثل الشعب الفلسطيني أمام إسرائيل في المفاوضات التي ستجري بشأن رفع مظاهر الحصار على القطاع يتصرف على هذا النحو، فكيف سنتوقع أن يحرص على تحقيق مطالب المقاومة العادلة؟ ما يبرر الشكوك بشأن دوافع سلوك عباس وخلفياته أن أوساطاً رسمية إسرائيلية تجاهر بأن هناك تفاهماً بين تل أبيب والسلطة وقوى عربية إقليمية على توظيف الحرب في استئصال المقاومة الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، أعلنت وزيرة القضاء الصهيونية، تسيفي ليفني، أنها أعدت خطة متكاملة، تهدف إلى "خنق" حركة حماس قطاع غزة بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، وبدعم أطراف عربية أخرى.
وكان الفلسطينيون قد استبشروا خيراً عندما أعلن الرئيس عباس، قبيل انتهاء الحرب، عن "مفاجأة سياسية"، قيل إنها تقوم على توظيف نتائج الحرب، من أجل تقليص هامش المناورة السياسية أمام تل أبيب في المحافل الدولية. لكن، من أسفٍ أن "مفاجأة" عباس الحقيقية والصادمة كانت من نصيب أبناء شعبه الذين تعرضوا لأعتى حرب صهيونية. والواقع البائس سيلطم عباس مجدداً بقوة، فإسرائيل التي تنشد مساعدته لتجفيف منابع المقاومة في غزة تواصل ضخ الوقود في آلة الاستيطان والتهويد. ففي وقت كان عباس فيه مشغولاً بمناكفاته الداخلية، أصدرت الحكومة الإسرائيلية قراراً بمصادرة أربعة آلاف دونم في محيط بيت لحم لبناء مزيد من المستوطنات. وإن كان هذا لا يكفي، فإن نواب حزب الليكود الحاكم يعكفون على سن مزيد من مشاريع القوانين الهادفة إلى تهويد المسجد الأقصى. للأسف الشديد، يقدم نتنياهو على كل هذه الجرائم، ولا يتورع عن تحذير عباس من مخاطر الارتباط بحركة حماس، ويحثه على هجر المصالحة معها، فحسب منطقه الأعوج، المصالحة مع "حماس" والمفاوضات مع إسرائيل لا يلتقيان. ويحسن أبو مازن صنعاً لو استمع لنصيحة الكاتب الصهيوني البارز، عكيفا إلدار، الذي حذّره من أن كل ما يعني نتنياهو أن يدفع نحو إشعال حرب أهلية فلسطينية، وبعد ذلك، لن يحصل عباس من إسرائيل إلا على السراب.