رغم مسيرتها القصيرة والمتقطعة، تظل أسمهان واحدة من أهم الأصوات في الغناء العربي. كما يبدو أنها، رغم شغفها بالغناء، لم تكن مقتنعة باحتراف تلك المهنة التي ظلت تعتقد أنها تنتقص من قيمتها كأميرة. إحساس متعالٍ، مثّل رد فعل لحالة من التهميش الذي عانت منه الأسرة نتيجة الفقر في القاهرة.
في كتابه عن أسمهان، يشير محمد التابعي إلى أنها لم تكن تحب اسمها الفني (اسمها الحقيقي آمال الأطرش) عند التواصل مع أصدقائها المقربين. ظلت تعيش حالة من التناقض المركب، شعورها أنها أميرة درزية، أو تلك الصورة المتعالية التي فرضت عليها كثيراً من الارتباك.
منذ طفولتها عانت أسمهان، عندما هربت أمها علياء المنذر وأطفالها من جبل الدروز في سورية، واستقروا في مصر، وعانوا من الفاقة والتهميش، بينما كانوا ينتموا إلى الأعيان في منطقتهم. وظل هذا الإحساس لديها، وحتى بالنسبة لأخيها فريد الأطرش، كونهم أمراء، مع أنهم ليسوا أكثر من مشايخ أو أعيان في منطقتهم، وهذا الشعور بالأهمية يشمل كل أفراد عائلة الأطرش.
والمعضلة في الوجه المتناقض بالنسبة للمغنية أسمهان، أو الأميرة آمال الأطرش، أن تكون فنانة، والشعور بأن وظيفتها تلك تنتقص من قيمتها كأميرة. وهو الأمر الذي جعلها تتخلى عن مشروعها الغنائي في فترات انقطاعها، أو أنه ظل مشروعاً غير مكتمل. وبالنظر إلى مسيرتها الغنائية، سنجد أنها أحيطت بالكثير من التأويلات والأسطرة، أو المبالغات. اعتبرها السنباطي الوحيدة التي كان بمقدورها منافسة أم كلثوم. إلا أن تلك المنافسة مشروطة بأن تركز على الغناء وتمنحه كل حياتها.
غير أن أسمهان ظلت تعاني من إحساس مأساوي، ربما كان على علاقة بطابعها الحزين. وهو أيضاً الشعور المأساوي الذي وسم أغاني أخيها فريد الأطرش. كان الملحن داود حسني أول من لاحظ ميزات صوت آمال الأطرش، وهو الذي أطلق عليها تسميتها الفنية: أسمهان.
بدأت اسمهان الغناء في مرحلة مبكرة، وسجلت أول أسطواناتها وهي صغيرة. حظيت أسمهان بمباركة أهم الملحنين المصريين. احتضنها في البدء داود حسني وعلمها أصول الغناء. ثم انطلقت مع أهم الملحنين المصريين، تحديداً محمد القصبجي. أصبحت أسمهان تغني في شارع عماد الدين، وتسجل على الأسطوانات. يقول محمد التابعي إن تجربتها في شارع عماد الدين، وهي تغني مع أخيها فريد، أثارت لديها عقدة من الغناء للجماهير. كان يلقي عليها السكارى أبشع الألفاظ. وهي لذلك حين وقفت على المسرح أمام خمسة آلاف متفرج في جامعة القاهرة أول الأربعينيات، لم تستمر أكثر من ساعة، ورحلت رغم احتفاء الجماهير بها ومطالبتهم لها بالبقاء.
كان يمكن لها أن تحصل على الذهب من غنائها، لكنها عانت أيضا من ابتزاز محيطها العائلي، وتحديداً من أخيها الأكبر، فؤاد الأطرش. ففي البدء ظلت تغني، وكان كل ما تحصل عليه تأخذه والدتها. بل إنها أصبحت أشبه بالحصالة التي تعتمد عليها أسرتها. هذا ما جعل ارتباطها بالغناء غائماً، رغم حبها له. كانت كما يقول التابعي، تذهب إلى الحفلات رغماً عنها، لأنها مضطرة للعيش، وتغني أمام أصدقائها بكل رحابة، حتى أنها لا تقبض أجراً عندما يدعونها للغناء في بيوتهم.
سجلت أول أغانيها مطلع الثلاثينيات وكانت لم تزل طفلة، لحن لها زكريا أحمد واللبناني فريد غصن، لكن بروزها كان بألحان محمد القصبجي. اتسمت أول أغانيها بالأساليب التقليدية، وهو ما يمكن ملاحظته في أغنية "اسمع البلبل" من ألحان محمد القصبجي، على مقام البيات. يذكرنا مطلعها، إلى حد ما، بمطلع أغنية محمد عبد الوهاب "يا جارة الوادي".
آنذاك، كان صوت أسمهان أقل نضجاً مقارنة بأغانيها المسجلة في نهاية الثلاثينيات وفي مرحلة الأربعينيات. لكنها أكدت اقتدارها على أداء الغناء الشرقي. كما ستظهر لاحقاً بأداء أغان ذات توجهات حداثية، أو تجديدية. صعد اسم اسمهان، لكنها كانت فتاة ضئيلة ما زالت تغني في شارع عماد الدين. كانت كذلك مستلبة لأسرتها، وأصبحت الماكينة التي تدفع احتياجات المعيشة داخل المنزل. لذا حين تقدم لها ابن عمها حسن الأطرش، وكان عمدة جبل الدروز، وجدت فيه الخلاص. ووافقت أن تترك الفن، فزواجها ذلك يعزز لديها الإحساس بأنها أميرة.
حدث أول انقطاع في مسيرتها الغنائية بعد زواج استمر ست سنوات. في تلك الفترة، عرفت الرخاء، لكنها عادت وسجلت أسطوانة من إنتاج بيضافون، في آخر سنوات زواجها. ظلت أسمهان أيضاً تريد العودة للغناء. فتلك الصورة المرتبكة جعلتها دائماً تعيش تناقضات عديدة. مع هذا، لم يحدث أن كانت مغنية بهذا الحجم. عندما عادت احتفى بها الوسط الفني، وكان الملحنون على استعداد للتسابق على صوتها.
يبدو الانقطاع واضحاً على مسيرتها، لأنه بالنظر لبداياتها سنجد صوتها أكثر نضجاً، لن نلحظ ذلك التدرج في مسيرتها، أو كيف وصل إلى ما هو عليه. لدى اسمهان موهبة واضحة، فهي رغم إسرافها بالشرب والتدخين، إلا أن ذلك لم يؤثر على صفاء صوتها.
ستظهر ملامح التجديد في مرحلتها الثانية، بل هي المرحلة الأكثر ثراء، قدمت أغاني بألحان محمد القصبجي، ورياض السنباطي، وأيضاً فريد الأطرش، ومدحت عاصم. كان هناك لحن من أكثر الألحان كآبة، وضعه زكريا أحمد لقصيدة أبو العلاء المعري "غير مجد في ملتي واعتقادي". لكن اسمهان أيضاً كانت بمثابة توليفة من البؤس والنجاح والمغامرة والألم. قصة غريبة، صوت خلاب فرض نفسه منذ أول يوم. عندما غنت صغيرة وصف عبد الوهاب صوتها بصوت امرأة ناضجة.
ربما تغيرت وجهة نظره، لأن عبد الوهاب النرجسي أراد النيل من أسمهان التي تجاهلته في مسائل الحب.
في أغنية "يا طيور"، قدم القصبجي صورة للحداثة المبكرة، وعلى عكس قصيدتي "هل تيم البان" و"اسقنيها"، كانت توجهاته في التجديد أكثر وضوحاً. اقتبس القصبجي في المدخل الموسيقي ذي التوزيع الهارموني من فالس "غابات فيينا" للنمساوي شتراوس. كذلك اقتبس منها أصوات الطيور، الذي أجادته أسمهان في شكل أوبرالي. الأغنية من مقام النهاوند، وتنتقل إلى الكرد في "مالت الأغصان" بعد لازمة موسيقية، ثم لازمة أخرى من مقام العجم، وتذهب إلى البيات، لتعود إلى النهاوند.
ليس هناك مغنية طاولها الكثير من التأويلات كما أسمهان، بل إن التأويل المبالغ طاول الملحنين الذين تعاملوا معها، ومع أم كلثوم. فعلى سبيل المثل، رأى كثيرون أن القصبجي في لحنه التقليدي لقصيدة "هل تيم البان" من شعر أحمد شوقي، أراد أن يلفت نظر أم كلثوم. ثم عندما لم تأبه له، ذهب مع أسمهان في نزوع تجديدي. لكن القصبجي بدأ مع أسمهان بصورة تقليدية، ثم تدريجياً انتقل للحداثة. الأمر الآخر أن أم كلثوم عاقبت القصبجي ولم تغن من ألحانه لأنه لحن لأسمهان، من القصص التأويلية التي لا تعتمد على واقعية.
فمثلاً، كانت واحدة من أغاني أسمهان "يا لعينيك وعيني"، من ألحان رياض السنباطي، كان لحن الأغنية لأم كلثوم. لكن الأخيرة فرضت عليه بعض التعديلات، لتوجهاتها الحداثية. في ذلك اللحن، أظهر السنباطي إحدى رومانسياته اللافتة؛ مدخل إدليب رومانتيكي مع ضربات عوده المذهل، ثم تتابع لجملة موسيقية إيقاعية متلاحقة من أجمل الجمل الموسيقية. الأغنية من مقام الجهار كاه المتفرع من العجم.
كانت الأغنية واحدة من ذرى الغناء العربي، يُقال إن القصبجي نصح السنباطي بتقديم اللحن لأسمهان بعدما طلبت أم كلثوم تعديله. لا نستطيع الاعتماد على القصة تلك، لكن الأهم أن أم كلثوم ظلت تتعامل مع السنباطي من دون أي التباس في علاقتهما. لم يكتف السنباطي بذلك اللحن، قدم لها عدداً من أجمل الألحان.
في تلك المرحلة أيضاً، صعد دور فريد الأطرش في التعامل معها، وهو شقيقها الذي كانت تحبه بدرجة خاصة. لكنه أيضاً أكد لاحقاً أن قوة مسيرتها كمغنية لو أنها عاشت كانت بألحان محمد القصبجي. ربما أشهر ألحانه لأسمهان "ليالي الأنس في فيينا"، بلحن الفالس، ورومانتيكيته، لكن لحنه من مقام الكرد.
أما "رجعت لك يا حبيبي"، لم يُلم بصوت أسمهان كما يجب، ففي مجموعة من القفلات من الطبقة المنخفضة، شاب صوتها بعض الوهن. وهذا الفارق بينه وبين القصبجي، الذي أعطى صوت أسمهان حقه وأطلقه في أعلى صوره. ربما واحد من الجوانب التي تعيب صوت أسمهان، ضعفه في الدرجات المنخفضة، بينما قوته في الدرجات العالية. أما أم كلثوم فكانت تجيد الغناء عالياً ومنخفضاً.
حدث الانقطاع الثاني في مهمة استخباراتية مع البريطانيين، وذهبت من أجل إقناع آل الأطرش بالوقوف إلى جانب الحلفاء. أثارت المهمة إحساسها الداخلي بالأهمية كأميرة درزية، كان هناك تحت تصرفها أربعون ألف جنيه، ستقوم بتوزيعها على الزعامات العشائرية.
في لحنه "امتى ح تعرف امتى"، استخدم القصبجي لحن الصالونات على إيقاع التانغو، واتسم بطابع ألحان السينما في عصر الأربعينيات. حصلت اسمهان على أعلى أجر سينمائي في ذلك العصر، حيث بلغ 11 ألف جنيه، على فيلمها الأخير "غرام وانتقام"، لكنها ماتت غرقاً في ترعة قبل تصوير آخر مشاهده.