10 نوفمبر 2024
ماذا يحدث في الأردن؟
لا تصمد أي تجربة حراك أو احتجاج أو أحداث شعبية سابقة أمام المقارنة بالاحتجاجات والإضرابات التي حدثت في الأردن، خلال الأيام الماضية، والتي يمكن وصفها فعلاً بأنّها النسخة الحقيقية من الربيع العربي في الأردن، مقارنةً بالحراك الشعبي الذي انفجر أردنياً في عام 2010، واستمر قرابة عامين، لكنّه لم يكن، في تركيبته وطبيعته، مشابهاً للاحتجاجات السلمية العربية، ولم يصل إلى ذلك المستوى، فكان محدوداً مأزوماً، ومرتبطاً بدرجةٍ كبيرةٍ بالقوى المؤدلجة.
أمّا الاحتجاجات الأخيرة فتميّزت بسماتٍ غير مسبوقة، فالإضراب الذي نفّذته النقابات المهنية (30/5) فريد من نوعه، سابقة في التاريخ المعاصر، وحجم التفاعل معه كان جيداً، ثم الاحتجاجات التي اجتاحت أماكن عديدة، ومن ضمنها الدوّار الرابع في جبل عمّان، أي أمام مبنى رئاسة الوزراء، تميّزت بقدر كبير من السلمية، وبارتباطه بشرائح غير مستهلكة في العملية السياسية، سواء الحزبية أو النخبوية، نسبة كبيرة منهم ليست لها ممارسة سابقة للعمل السياسي، ولا حتى الاحتجاجات الشعبية!
فوق هذا وذاك، من الواضح أنّ هنالك نسبة كبيرة من المحتجين من الطبقة الوسطى ومن جيل الشباب الجديد، كما أنّ هنالك نسبة كبيرة من المحافظات التي شهدت احتجاجات ذات طبيعة أعنف مادياً ورمزياً، ما جعل الرقعة الجغرافية والسكانية للاحتجاجات أعلى من كلّ مرة، وأوسع مما سبق.
يضاف إلى ذلك كله أنّ الشريحة الكبرى في عمّان من الطبقة الوسطى، ذات الأصول الأردنية - الفلسطينية، تحرّكت بصورة جماعية وملحوظة ضمن الاحتجاجات، وهذا ما لم يكن يحدث خلال العقود الماضية.
ما الذي حدث، إذاً، فحرّك المياه الراكدة، وقلب حالة الطبقة الوسطى من الركود والسلبية واللامبالاة عموماً إلى النشاط والفاعلية والحركة، بعدما استنكفت نسبةٌ كبيرةٌ منها عن المشاركة في الحراك الشعبي في ذروة الربيع العربي، فلماذا اليوم؟ السبب المباشر هو المشروع المعدّل لقانون ضريبة الدخل الذي أصبح يمسّ الطبقة الوسطى بصورة أكبر من المرحلة السابقة، عبر تخفيض الإعفاءات الضريبية لها (على السكن والتعليم)، وزيادة الشريحة التي تدفع منها الضريبة، وزيادة الفوائد البنكية المتوقعة، ما يؤثر كثيراً على قروضها، وذلك كله مع الزيادة المتوقعة في الأسعار، والتأثيرات السلبية على الاستثمار، بما يضر بشريحة من الطبقة الوسطى أيضاً.
على الرغم من أنّ هذه هي الأسباب المعلنة التي جعلت من هدف سحب قانون ضريبة الدخل، ثم إسقاط الحكومة الحالية، مطلباً رئيساً للنقابات التي تمثّل هذه الطبقة اليوم في التفاوض مع الحكومة، إلاّ أنّ المتأمل في الخطاب الاحتجاجي في الشارع، وحجمه ومستواه، مع مشاركة شرائح عريضة غير متضرّرة من المشروع المرسل إلى مجلس النواب، سيجد أنّ الأسباب تتعدّى ذلك إلى القول إنّ مشروع القانون ليس إلاّ "القشّة التي قصمت ظهر البعير"، وأنّ هنالك تراكمات وتطوّرات عديدة هي التي أوجدت مناخاً سلبياً كبيراً في العلاقة بين الحكومة والشارع، كشفت عنه أرقام مركز الدراسات الاستراتيجية التي صدمت الجميع بمستوى منخفض جداً غير مسبوق من الشعبية للحكومة، ما كان مؤشراً (لم يلتقطه أحد) على وجود أزمة حقيقية، قبل موضوع قانون الدخل وتداعياته.
صحيح أنّ الأزمة تبدو اقتصادية ومالية مرتبطة بالموازنة والضرائب والعجز والميزانية، أو بتراجع الاستثمار والنمو وارتفاع البطالة والأسعار، لكن جوهرها، في الحقيقة، سياسي بامتياز، ومرتبط بتنامي المسافة الفاصلة بين الطبقة السياسية المتكلّسة والشريحة الاجتماعية الواسعة، سواء من الطبقة الوسطى، أو من جيل الشباب المعولم، أو حتى المهمّشين خارج "كوكب عمّان الغربية"، بمعنى عجز "البناء السياسي الوظيفي"، بتعبير جبرائيل ألموند، عن استيعاب المدخلات والمتغيرات الجديدة التي تتشكّل على صيغة مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية، وقوى دعم جديدة مغايرة للقوى التقليدية، فبقيت المخرجات والآليات التي يعمل بها النظام ضمن المربعات القديمة، ولا تتناسب أو تتجانس مع طبيعة المدخلات، ما يعني أنّ هنالك أزمة تكيّف مؤسساتي ووظيفي كبرى، يعيشها النظام السياسي في الأردن.
الخبر الجيّد أنّ مطالب الاحتجاجات الجديدة لا تصل إلى حد إسقاط النظام، فهنالك قناعة كاملة بشرعية النظام الأردني شعبياً، لكن المطلوب هو إصلاح العملية السياسية بصورة جوهرية وحقيقية، واستيعاب المتغيرات الجديدة، فالألعاب القديمة للتحايل على ذلك وصلت إلى طريق مسدود، خلال الأيام الماضية، عبر ارتفاع متدرّجٍ ومتدحرجٍ في منسوب الاحتجاجات ومستواها وطبيعتها.
أمّا الاحتجاجات الأخيرة فتميّزت بسماتٍ غير مسبوقة، فالإضراب الذي نفّذته النقابات المهنية (30/5) فريد من نوعه، سابقة في التاريخ المعاصر، وحجم التفاعل معه كان جيداً، ثم الاحتجاجات التي اجتاحت أماكن عديدة، ومن ضمنها الدوّار الرابع في جبل عمّان، أي أمام مبنى رئاسة الوزراء، تميّزت بقدر كبير من السلمية، وبارتباطه بشرائح غير مستهلكة في العملية السياسية، سواء الحزبية أو النخبوية، نسبة كبيرة منهم ليست لها ممارسة سابقة للعمل السياسي، ولا حتى الاحتجاجات الشعبية!
فوق هذا وذاك، من الواضح أنّ هنالك نسبة كبيرة من المحتجين من الطبقة الوسطى ومن جيل الشباب الجديد، كما أنّ هنالك نسبة كبيرة من المحافظات التي شهدت احتجاجات ذات طبيعة أعنف مادياً ورمزياً، ما جعل الرقعة الجغرافية والسكانية للاحتجاجات أعلى من كلّ مرة، وأوسع مما سبق.
يضاف إلى ذلك كله أنّ الشريحة الكبرى في عمّان من الطبقة الوسطى، ذات الأصول الأردنية - الفلسطينية، تحرّكت بصورة جماعية وملحوظة ضمن الاحتجاجات، وهذا ما لم يكن يحدث خلال العقود الماضية.
ما الذي حدث، إذاً، فحرّك المياه الراكدة، وقلب حالة الطبقة الوسطى من الركود والسلبية واللامبالاة عموماً إلى النشاط والفاعلية والحركة، بعدما استنكفت نسبةٌ كبيرةٌ منها عن المشاركة في الحراك الشعبي في ذروة الربيع العربي، فلماذا اليوم؟ السبب المباشر هو المشروع المعدّل لقانون ضريبة الدخل الذي أصبح يمسّ الطبقة الوسطى بصورة أكبر من المرحلة السابقة، عبر تخفيض الإعفاءات الضريبية لها (على السكن والتعليم)، وزيادة الشريحة التي تدفع منها الضريبة، وزيادة الفوائد البنكية المتوقعة، ما يؤثر كثيراً على قروضها، وذلك كله مع الزيادة المتوقعة في الأسعار، والتأثيرات السلبية على الاستثمار، بما يضر بشريحة من الطبقة الوسطى أيضاً.
على الرغم من أنّ هذه هي الأسباب المعلنة التي جعلت من هدف سحب قانون ضريبة الدخل، ثم إسقاط الحكومة الحالية، مطلباً رئيساً للنقابات التي تمثّل هذه الطبقة اليوم في التفاوض مع الحكومة، إلاّ أنّ المتأمل في الخطاب الاحتجاجي في الشارع، وحجمه ومستواه، مع مشاركة شرائح عريضة غير متضرّرة من المشروع المرسل إلى مجلس النواب، سيجد أنّ الأسباب تتعدّى ذلك إلى القول إنّ مشروع القانون ليس إلاّ "القشّة التي قصمت ظهر البعير"، وأنّ هنالك تراكمات وتطوّرات عديدة هي التي أوجدت مناخاً سلبياً كبيراً في العلاقة بين الحكومة والشارع، كشفت عنه أرقام مركز الدراسات الاستراتيجية التي صدمت الجميع بمستوى منخفض جداً غير مسبوق من الشعبية للحكومة، ما كان مؤشراً (لم يلتقطه أحد) على وجود أزمة حقيقية، قبل موضوع قانون الدخل وتداعياته.
صحيح أنّ الأزمة تبدو اقتصادية ومالية مرتبطة بالموازنة والضرائب والعجز والميزانية، أو بتراجع الاستثمار والنمو وارتفاع البطالة والأسعار، لكن جوهرها، في الحقيقة، سياسي بامتياز، ومرتبط بتنامي المسافة الفاصلة بين الطبقة السياسية المتكلّسة والشريحة الاجتماعية الواسعة، سواء من الطبقة الوسطى، أو من جيل الشباب المعولم، أو حتى المهمّشين خارج "كوكب عمّان الغربية"، بمعنى عجز "البناء السياسي الوظيفي"، بتعبير جبرائيل ألموند، عن استيعاب المدخلات والمتغيرات الجديدة التي تتشكّل على صيغة مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية، وقوى دعم جديدة مغايرة للقوى التقليدية، فبقيت المخرجات والآليات التي يعمل بها النظام ضمن المربعات القديمة، ولا تتناسب أو تتجانس مع طبيعة المدخلات، ما يعني أنّ هنالك أزمة تكيّف مؤسساتي ووظيفي كبرى، يعيشها النظام السياسي في الأردن.
الخبر الجيّد أنّ مطالب الاحتجاجات الجديدة لا تصل إلى حد إسقاط النظام، فهنالك قناعة كاملة بشرعية النظام الأردني شعبياً، لكن المطلوب هو إصلاح العملية السياسية بصورة جوهرية وحقيقية، واستيعاب المتغيرات الجديدة، فالألعاب القديمة للتحايل على ذلك وصلت إلى طريق مسدود، خلال الأيام الماضية، عبر ارتفاع متدرّجٍ ومتدحرجٍ في منسوب الاحتجاجات ومستواها وطبيعتها.