ليلة رعب في باريس

19 نوفمبر 2015
+ الخط -
كانت فرنسا تحبس أنفاسها، وكان العالم مشدوهاً، وهو يتابع تفاصيل المأساة الباريسية، عمّ الفزع عاصمة الأنوار، وتحوّل جمالها الأخّاذ إلى لوحة تراجيدية شاحبة. في شوارع المدينة الغرّاء، هرول الناس على غير هدى، وخيّم الخوف على المكان، فجأةً أصبحت المدينة المكتظّة بالحياة والمفعمة بالحركة مقفرة، وانتشرت قوات الشرطة، ودوّت صفارات الإنذار، وتوافدت سيارات الإسعاف من كل حدب وصوب... تناثرت جثث القتلى وأجساد الجرحى يميناً وشمالا، في مسرح باتاكلان، كما في محيط ملعب فرنسا، وكذا أمام مطاعم ومقاهٍ مختلفة في الدائرتين، العاشرة والحادية عشرة. وفي خضمّ المشهد الدموي الفاجع، بدا المواطنون العزّل بلا حارس وبلا رقيب، وبدا المعتدون بلا شفقة ولا رحمة، وبلا رادع ولا حسيب. كان أداء الشرطة مرتبكاً، ولم يواكب مستجدات الكارثة المفاجئة بالسرعة المطلوبة، فقتل المهاجمون ضحاياهم بدم بارد، وضربوا كبرياء فرنسا، وقوتها الأمنية القاهرة في مقتل. ودفع هول الهجمات الدامية النكراء الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، إلى إعلان الطوارئ، والأمر بغلق الحدود، والقول إن فرنسا في حالة حرب ضدّ الإرهاب، داعيا المواطنين إلى الاتحاد صفاً واحداً في مواجهة الخطر الإرهابي الداهم.
وبعيداً عن لوحة الدم الموحشة، يخبر تحليل الحدث أننا إزاء عمليات إرهابية/انتقامية دبرت على نحو دقيق، ووفق تخطيط مسبق، تبدو عليه بصمات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واضحة، فالمرجّح أنّ مجموعة من الذئاب الانغماسية، المنتمية إلى خلية إرهابية نائمة، اخترقت الجدار الأمني الفرنسي، وبثت الرعب في البلاد في وقت قياسي، مخلفة عدداً كبيراً من الضحايا في صفوف المدنيين. والثابت أن اختيار الزمان لم يكن أمراً عبثياً، بل كان اختياراً دقيقاً إلى حد كبير، فميقات الهجمات القاتلة كان عطلة نهاية الأسبوع التي تعرف بتوافد الناس على الساحات العامة، وعلى أماكن الترفيه بكثافة، واختيار المكان لم يكن اعتباطياً، فباريس ذات قيمة رمزية حضارية بالغة، فهي درة فرنسا وجوهرة جمالها وقوام إشعاعها، وفي ضربها ضرب قيم الحداثة والحرية والتنوير. واستهداف أماكن ترفيهية شعبية (ملعب كرة قدم، مطعم، مسرح) في وقت واحد كان المراد به إهدار أكبر قدر من الدماء، وإرباك الآمنيين الذين وجدوا أنفسهم مشتتين بين بؤر توتر متعددة، في لحظة كارثية واحدة، وهذه الدقة في التخطيط والتنفيذ والاستهداف والنكاية بالخصم من العلامات الواسمة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يعتبر أنصاره الغرب "معسكراً صليبياً بل دار حرب ومجتمع كفر يتعين مفاصلته، ومجاهدته، وإمعان القتل فيه"، بدعوى أنه عدو الإسلام ومصدر الوبال المشهود في أمة المسلمين. ويمكن
تفسير الحدث في سياقه التاريخي/ الجيوسياسي الآني بعدة معطيات، لعل أهمها استحكام العداء بين فرنسا وتنظيم الدولة الإسلامية في بؤر توتر مختلفة في مقدمتها سورية والعراق، فإقدام باريس على توجيه حاملة الطائرات "شارل ديغول" نحو المنطقة منذ حوالي شهرين، وتوجيهها ضربات مباشرة لمعاقل التنظيم، أورث حالة من الغيظ في صفوف" الجهاديين" الراديكاليين في سورية، وجعلهم يضعون استهداف المصالح الفرنسية في قائمة أولوياتهم. يضاف إلى ذلك أن هجمات باريس تأتي بعد أيام معدودة من إعلان السلطات الأمنية الفرنسية القبض على خلية إرهابية، كانت تنوي الاعتداء على قاعدة بحرية فرنسية في مدينة تولون، كما أن هجمات باريس تتزامن مع قمة فيينا التي يجتمع المشاركون فيها، بحجة البحث عن حل سياسي للأزمة السورية، مع الحرص على إقصاء الفصائل المسلحة، واعتبار داعش العدو الأول الذي يتعين القضاء عليه لبناء سورية الجديدة، ومعلوم أن فرنسا تحتل المرتبة الأولى في الدول الأوروبية التي التحق عدد من مواطنيها بصفوف داعش، وهي من أكثر الدول حماسة للفتك بتنظيم الدولة الإسلامية، لذلك كان استهداف باريس عقابا مباشرا لسياستها الخارجية من ناحية، ورسالة موجهة إلى مواطني التحالف الدولي المتكاتف ضد الإرهاب، مفادها أن داعش قادر على تحويل الحرب إلى بيوتهم، وإلحاق الأذى بهم في صورة استمر صناع القرار في بلدانهم في تعقب داعش، وترصده ودكّ معاقله.
والظاهر أن تراجع تنظيم الدولة الإسلامية بشكل لافت للنظر في سورية والعراق، وتقلص امتداده الجغرافي، وفقدانه مواقع نفوذ إستراتيجية في سنجار، كما في تخوم حلب والرمادي، قد دفعه إلى استدعاء خلاياه النائمة، وتفعيل دورها الهجومي، ليثأر لنفسه من خصومه من ناحية، وليبرز في موقع القوة القاهرة التي تضرب أينما تريد، ووقتما تريد، وكيفما تريد. ففي ظرف أيّام معدودة، تبنّى التنظيم إسقاط طائرة روسية في سيناء، وقام بتفجيراتٍ في برج البراجنة المأهول بأغلبية شيعية، موالية لحزب الله، واستهدف معسكرا للتدريب في الأردن، ونوّع من عملياته الإرهابية القاتلة في قلب باريس، ومراد التنظيم من ذلك القول إن داعش باق ويتمدد، والتنبيه إلى أنّه حاضر ويثأر....
بدا واضحا أن داعش أصبح يمثل خطراً على الأمن القومي العالمي، وأنه قادر على اختراق أعتى النظم الاستخباراتية في العالم، وإحداث المفاجآت الدامية في كل مكان، وبدا واضحا أنه قادر على ترويج إسلام "جهادي/راديكالي" طارد للآخر، على نحو يزيد من عزلة العرب والمسلمين، ويزيد من تنامي الإسلاموفوبيا، ويصبّ في صالح صعود اليمين المتطرّف في الدول الغربية.
كيف تسلل الإرهابيون إلى فرنسا وعبثوا بأمنها؟ ما هي أسباب الفشل المخابراتي في استباق هجماتهم؟ هل أصبحت للإرهاب حاضنة اجتماعية في فرنسا؟ هل فشلت الحكومات الفرنسية المتعاقبة في إدماج الأجانب؟ وهل المعالجة الأمنية وحدها كافية لمكافحة الإرهاب؟
أسئلة أخرى تثيرها فواجع ليلة مرعبة في باريس

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.