ليبيا من الثورة إلى الانقسام على السلطة

21 فبراير 2016
+ الخط -
مرت خمس سنوات على اندلاع الثورة الليبية (17 فبراير/شباط 2011) التي أفضت إلى سقوط نظام العقيد معمر القذافي الذي عمّر طويلا، وتداعى سريعاً تحت وطأة الاحتجاجات الشعبية، وضغط المجتمع الدولي، وقصف الحلف الأطلسي. وعلى الرغم من أن الليبيين قد تنادوا أيام الثورة، شأن بقية الشعوب العربية المضطهدة بالحرية والكرامة والعدالة، وعبّروا عن شوقهم إلى إقامة أركان دولة مدنية تعددية عصرية، فإنهم لم ينجحوا في تحويل منجزهم الثوري إلى تجربة ديمقراطية واعدة. فما انفكت ليبيا، بعد سقوط النظام الشمولي الأحادي الذي حكمها عقوداً، تعاني من ويلات الصراع الداخلي على السلطة، ومن تهافت المليشيات المسلحة على النفوذ، ومن تكالب الدول على ثرواتها النفطية ومدخراتها الطبيعية. وبدا واضحاً أن فوضى انتشار السلاح أنتجت حالة من الانفلات الأمني، وأربكت الوضع الاقتصادي في البلاد، وحالت دون تأمين مسار بنائي، مدني، سلمي، لمؤسسات الدولة الجديدة. فالاستقواء بسلاحٍ مصدره المليشيات، أو مصدره الجيش أو القوى الخارجية، لا يخدم مطلب الاستقرار السياسي في ليبيا. كما أن إحياء النزعات القبلية، والانخراط في دوائر التعصب الحزبي والانغلاق الأيديولوجي لا يخدم بحال مطلب إقامة حكم توافقي في البلاد. والواقع أن عدداً كبيراً من الفرقاء الليبيين بعد الثورة ما فتئوا يعقدون جولات تفاوض، على الرغم من أهميتها، تبقى محكومة بمنطق المحاصصة الحزبية والقبلية، وبهاجس حب الزعامة والاستقواء بالأجنبي، بحثاً عن أكبر قدر من النفوذ والهيمنة على دوائر الحكم في المرحلة المقبلة. والمتابع لجولات الحوار الليبي/ الليبي على مدى شهور يتبين أن حدية الانقسام الداخلي الليبي تمهد للتدخل الخارجي، وتسمح بامتداد "داعش" وأخواتها في ظل غياب عقل جمعي توافقي، وهيئات سيادية تمثيلية جامعة، ودولة قوية، رادعة، تحظى بثقة معظم الليبيين. والمتابع لتطورات اتفاق الصخيرات (17 ديسمبر/كانون الأول 2015) وما بعده يلاحظ في غير عناء حجم الارتباك الذي يعتري المشهد السياسي الليبي، فالانقسام بعد الثورة لم يقف عند التنازع على الشرعية بين حكومة طبرق وحكومة طرابلس. بل تعدى ذلك إلى انقسام داخلي، طاول مجلس النواب المنعقد في طبرق، والمؤتمر الوطني العام المنعقد في طرابلس. فقد دب الانشقاق داخل كل طرف، وتباينت المواقف بخصوص التوقيع على مخرجات اتفاق الصخيرات الذي سلم به بعضهم في طبرق وطرابلس، ورفضه آخرون، حتى ذهب رئيسا مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام كلاهما إلى أن "الأعضاء الموقعين على اتفاق الصخيرات لا يمثلون إلا أنفسهم"، ما يدل على عمق الانقسام داخل الطبقة السياسية الليبية. ولم يقف التشتت عند هذا الحد، بل دب الخلاف بين الموقعين على اتفاق الصخيرات أنفسهم، فمنهم من أيّد مشروع حكومة الوحدة الوطنية بقيادة فايز السراج، ومنهم من اعترض عليها. وللتشتت المشهود على الصعيد السياسي انعكاساته على الصعيدين، العسكري والاجتماعي، فكتائب المسلحين وعموم الليبيين موزعون بين مناصر للحكم التوافقي ومؤيد لأحد أطراف الأزمة دون غيره.
ومعلوم أن استمرار الانقسام على هذا النحو، يعطل أي محاولة لبناء نظام حكم رشيد في البلاد،
ويفوّت على الليبيين فرصة إقامة أركان دولة ديمقراطية مدنية، مستقرة وفاعلة في المنطقة المغاربية. ولا يسمح لحكومة السرّاج الجديدة (13 وزيرا) التي زكّاها مجلس الرئاسة (14 فبراير/ شباط 2016) بمزاولة صلاحياتها ومواجهة تحديات ليبيا وأزماتها العالقة. ويمكن أن يفهم ارتباك المشهد الانتقالي الليبي بمحدودية الثقافة الديمقراطية لدى الناس، وتصحر البلاد من الناحية السياسية على مدى عقود من حكم القذافي، فغياب المؤسسات المدنية، والهياكل النقابية والأحزاب والمنظمات الحقوقية على مدى سنوات من حكم الدولة القامعة جعل التحول من الأحادية إلى التعددية أمراً صعباً، والانتقال من الإقصاء إلى التعايش أمراً عسيراً، وجعل التداول السلمي على السلطة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع أمراً غير مُفعّل بالقدر الكافي في الحالة الليبية.
ومع أهمية التسليم بالأثر السلبي للماضي الديكتاتوري في الراهن الليبي، فإن ذلك لا يمنع من التنبيه إلى أن النخب السياسية في ليبيا تتحمل مسؤولياتها في ما آل إليه الوضع في البلاد. فقد أهدرت وقتاً كثيراً في التنازع على المناصب، وانتظمت في تشكيلات مسلحة، بدل الدفع نحو مشروع الدولة المدنية الممأسسة، وهو ما فتح الباب لتمدد داعش، وظهور خيار التدخل الأجنبي العسكري في الشأن الليبي. وأحرى بالفرقاء الليبيين اليوم الاجتماع تحت راية الوحدة الوطنية، وتقديم التوافق على التنافر خدمة للصالح العام، ودرءاً للتدخل الخارجي.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.