12 نوفمبر 2024
لويس ماسّينيون "المستشرق الأخير"
ولد لويس ماسينيون عام 1883 لوالدٍ نحّات، ووالدة كاثوليكية ورعة. درس الأدب، وصادف معضلة دينية شغلته طوال حياته، في أثناء بعثة أثرية قرب بغداد، فأسَرتْه السلطات العثمانية، للاشتباه به جاسوساً، وأرسلته إلى بغداد، حيث شعر بأنه في حضور وحي هزّه بقوة، وحوّله من كاثوليكي ينقصه الإيمان إلى مؤمنٍ كبير. لقد اعتبر هذه اللحظة قدرية، وسمّاها زيارة البعيد، غير المرئي، الذي يسمو بكل الأشياء، فيعلّم الأنبياء، ويوحي إليهم بتلك اللغات التي يعبرون بها عن تجاربهم الروحية في المسيحية والإسلام وأديان أخرى من خلال شهادةٍ تحيا عبر التضحية. هؤلاء هم سلسلة البدائل التي جهد هو للانتماء إليها، وهؤلاء هم أصدقاء الله و"شركة القدّيسين" التي تشكّل العمود الفقري للتاريخ البشري.
في السيرة التي وضعها عنه الكاتبان كريستيان ديتريمو، وجان مونسولون (جائزة الأكاديمية الفرنسية)، وأعيد نشرها بعد نفادها بسبب الإقبال الكبير عليها، يتعرّف القارئ إلى من كان من أهمّ المتخصّصين بالإسلام والعالم العربي، وذا تأثير على السياسة الفرنسية الخارجية، ومثقفا ملتزما بقضايا الشرق الأوسط والمغرب العربي، بدءاً من نضاله المبكّر جداً من أجل تحرير الجزائر، مروراً بصداقته، ومن ثم عدائه مع لورنس العرب، وصولاً إلى نضاله لصالح القضية الفلسطينية، المغرب، سورية، واستقلال الجزائر. على صعيد حياته الشخصية، كان ماسينيون شخصا معقّدا وولعا، شغوفا بالإسلام وكاثوليكيا متحمّسا أراد أن يرتسم كاهنا بحسب الطقس الملكي.
لقد أولى ماسّينيون أهمّية كبرى للتجارب الروحانية، وخصّص عدّة دراساتٍ للقدّيسين والشهداء والأولياء والمتصوّفة، المسيحييّن والمسلمين على السواء، وفي مقدّمتهم الحلاج الذي انتمى، بحسبه، إلى سلسلة البدائل حين قبل ظلم مجتمعه، وطلب الاستشهاد، وصُلب منبوذاً ومهمّشاً. وقد عزّزت ذلك زياراتٌ ميدانية وإقامات مطوّلة في البلدان الإسلامية من المغرب إلى آسيا الوسطى، ووظائف ومراكز رسمية تبوّأها، مستشارا في وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وراعيا روحيا للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر.
كانت محاضراته في الكوليج دو فرانس تجذب جمهورا كبيرا ومتنوعا من الطلاب والأتباع المسحورين بأطروحته الاستثنائية عن الحلاج التي شكّلت أحد أهم الكتب الجامعية في القرن الماضي. تولى كذلك الإشراف على إدارة الدراسات في مركز الدراسات العليا، ورئاسة لجنة شهادات تعليم العربية. هذا كله جعله شاهدا على تحولات العالم العربي والإسلامي، مشخّصا "صدام" الحضارات، بحسب تسميته هو، ومعدّدا أنواع الترياق الذي يمكن الأمم الغربية والشرقية أن تلجأ إليه، تفاديا لنتائجه المدمّرة.
وبغض النظر عن الآراء المتضاربة بشأن بعض مواقفه الاستشراقية التي كانت مثار جدل، فإن أهمية أثره لم تتراجع منذ وفاته في العام 1962، خصوصا في ما يتعلّق بنظرته إلى العلاقة بين الغرب والشرق، وما توقّعه لها، وبنضالاته من أجل تحقيق العدالة في المغرب ومدغشقر وفلسطين، فالذي دخل القدس مع الكولونيل لورانس عام 1917 أصبح لاحقا أحد أول أتباع غاندي الفرنسيين. والأستاذ المحاضر في الكوليج دو فرانس كان من زوار المساجين. والفرنسي المعجب بجان دارك اعترف في ما بعد بأن وطنه الروحي هو العالم العربي. وربّ العائلة ارتسم كاهنا بحسب الطقس المسيحي الملكي. أما صديق بول كلوديل وجاك ماريتان أكثر من 30 سنة، فلم يتردّد بالانفصال عنهما ومعاداتهما بسبب مواقفهما من القضية الفلسطينية.
أما لماذا بقيت تجربته وأفكاره تخاطبنا إلى اليوم، وخصوصا ما يتعلّق منها بكتاباته السياسية، وتحديدا المتعلقة بالأرض المقدّسة، فلأنه يصف فيها الأوضاع التي ستقود إلى صراعٍ لا نهاية له، تسبّبه أعمال ظالمة يرمز إليها "الأشخاص المهجّرون" من أرضهم. كان ماسينيون مع تقاسم الأراضي المقدّسة، حيث ينبغي أن تتم المصالحة بين الأديان التوحيدية الثلاثة في القدس بالذات، فبرأيه، تحويل الحلم الصهيوني إلى دولة، طرد العرب وتناسي مهمة الإسلام الأخروية (من آخرة)، يساهمان في إطالة النزاعات التي ستتسبب بحرب عالمية، كان يخشى وقوعها.
لقد كان "الكاثوليكي المسلم"، بحسب ما أطلق عليه البابا بيو الحادي عشر، يؤمن بأن الإسلام هو أحد تجليات الروح القدس، فهو لم يكن يحترم دين النبي محمد فحسب، بل كان يرى إليه كلحظة تاريخية مهمة، كلحظة مؤلمة، نزاعية وحاملة للمصالحة في آن.
لويس ماسينيون، نموذج غربي للانفتاح والحوار، يفتقده العالم العربي اليوم بشدّة.
لقد أولى ماسّينيون أهمّية كبرى للتجارب الروحانية، وخصّص عدّة دراساتٍ للقدّيسين والشهداء والأولياء والمتصوّفة، المسيحييّن والمسلمين على السواء، وفي مقدّمتهم الحلاج الذي انتمى، بحسبه، إلى سلسلة البدائل حين قبل ظلم مجتمعه، وطلب الاستشهاد، وصُلب منبوذاً ومهمّشاً. وقد عزّزت ذلك زياراتٌ ميدانية وإقامات مطوّلة في البلدان الإسلامية من المغرب إلى آسيا الوسطى، ووظائف ومراكز رسمية تبوّأها، مستشارا في وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وراعيا روحيا للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر.
كانت محاضراته في الكوليج دو فرانس تجذب جمهورا كبيرا ومتنوعا من الطلاب والأتباع المسحورين بأطروحته الاستثنائية عن الحلاج التي شكّلت أحد أهم الكتب الجامعية في القرن الماضي. تولى كذلك الإشراف على إدارة الدراسات في مركز الدراسات العليا، ورئاسة لجنة شهادات تعليم العربية. هذا كله جعله شاهدا على تحولات العالم العربي والإسلامي، مشخّصا "صدام" الحضارات، بحسب تسميته هو، ومعدّدا أنواع الترياق الذي يمكن الأمم الغربية والشرقية أن تلجأ إليه، تفاديا لنتائجه المدمّرة.
وبغض النظر عن الآراء المتضاربة بشأن بعض مواقفه الاستشراقية التي كانت مثار جدل، فإن أهمية أثره لم تتراجع منذ وفاته في العام 1962، خصوصا في ما يتعلّق بنظرته إلى العلاقة بين الغرب والشرق، وما توقّعه لها، وبنضالاته من أجل تحقيق العدالة في المغرب ومدغشقر وفلسطين، فالذي دخل القدس مع الكولونيل لورانس عام 1917 أصبح لاحقا أحد أول أتباع غاندي الفرنسيين. والأستاذ المحاضر في الكوليج دو فرانس كان من زوار المساجين. والفرنسي المعجب بجان دارك اعترف في ما بعد بأن وطنه الروحي هو العالم العربي. وربّ العائلة ارتسم كاهنا بحسب الطقس المسيحي الملكي. أما صديق بول كلوديل وجاك ماريتان أكثر من 30 سنة، فلم يتردّد بالانفصال عنهما ومعاداتهما بسبب مواقفهما من القضية الفلسطينية.
أما لماذا بقيت تجربته وأفكاره تخاطبنا إلى اليوم، وخصوصا ما يتعلّق منها بكتاباته السياسية، وتحديدا المتعلقة بالأرض المقدّسة، فلأنه يصف فيها الأوضاع التي ستقود إلى صراعٍ لا نهاية له، تسبّبه أعمال ظالمة يرمز إليها "الأشخاص المهجّرون" من أرضهم. كان ماسينيون مع تقاسم الأراضي المقدّسة، حيث ينبغي أن تتم المصالحة بين الأديان التوحيدية الثلاثة في القدس بالذات، فبرأيه، تحويل الحلم الصهيوني إلى دولة، طرد العرب وتناسي مهمة الإسلام الأخروية (من آخرة)، يساهمان في إطالة النزاعات التي ستتسبب بحرب عالمية، كان يخشى وقوعها.
لقد كان "الكاثوليكي المسلم"، بحسب ما أطلق عليه البابا بيو الحادي عشر، يؤمن بأن الإسلام هو أحد تجليات الروح القدس، فهو لم يكن يحترم دين النبي محمد فحسب، بل كان يرى إليه كلحظة تاريخية مهمة، كلحظة مؤلمة، نزاعية وحاملة للمصالحة في آن.
لويس ماسينيون، نموذج غربي للانفتاح والحوار، يفتقده العالم العربي اليوم بشدّة.