لم يعد قلبي مطمئناً

01 مارس 2016
+ الخط -

 

لم يعد قلبي مطمئناً. هذا لا يعني أنه كان في حال جيدة في الفترة الأخيرة، لكنه حتماً لم يكن على هذه الدرجة العالية من القلق والخوف، وقد ثبت لديه الآن، ومن دون أدنى شكّ، أن الآتي سيكون عظيما.

أقرأ تحليلات المحلّلين، تعليقات المعلّقين، توقعات المتنبـئين، ثم أتصل بأصدقائي، هلعةً، وأنا لا أريد أن أسمع إلا جملة وحيدة: لن تقع حربٌ، لا تجزعي. كل ما يصل إلي ينبئني بأن شيئاً كالحرب واقعٌ لا محالة. دماغي معطل. والسياسة لا تنفعني في هذه الحالات، أعني لا التحليل السياسي، ولا الوقائع، ولا المنطق، ولا النقاشات. ثمّة ما يتعطّل فيّ حين يتولّى حدسي الدفّة، وحين تقول لي بوصلتي الداخلية إن ما يجري بالفعل أكثر من مخيف. منذ أيام، وأنا أتابع الأخبار والمستجدّات كالممسوسة، في الجرائد العربية والعالمية، على الإذاعات وفي التلفزيونات، صباحاً ومساء، ويحدُث أن أكتفي، أحياناً، بالعناوين، بالخلاصة، كي أبلغ سريعاً ما يرمي إلى قوله الصحفيّ. والنتيجة؟ والعبرة؟ أسأل بشكل هستيري، هل ستقع الحرب أم لا؟

ثمّة من يضحك عليّ: لا قرار دولياً بإشعال الحرب حالياً في لبنان، بل العكس هو الصحيح، إذ المطلوب هو تحييده عن ساحة الصراع، وهو ما يدركه، ويوافق عليه الأطراف المحليون.

فأجيبه: حسناً، ممتاز. لكن، هل يضمن هذا عدم وقوع حرب جديدة في لبنان؟ وثمّة من يجاريني: المنطقة كلها على شفير هاوية، وقد سحبت المملكة السعودية، ومعها العرب جميعاً، غطاءهم عن لبنان الذي تحكمه عملياً دويلة حزب الله، فبات مكشوفاً، متروكاً لانقساماته، ولغباء سياسييه، وصراعاتهم التي لا تنتهي.

فأجيبه: نعم.. نعم. لكن، هل يعني هذا أن حرباً جديدة ستقع في لبنان؟

لا يأتي الجواب الذي يشفي غليلي، فأبقى معلّقة كسمكة نصفها في الهواء، نصفها في الماء. تعودني الكوابيسُ الماضية، كتلك التي تجعلني أدخل مكاناً تُقفل منافذُه كافةً، ولا أعود أستطيع الخروج منه، أو تلك التي أراني فيها هاربةً من أمرٍ مخيفٍ يتتبعني، ولا أستطيع أن أفتح فمي، لكي أطلب المساعدة، أو أنفث ذعري بالصراخ.

لا يمكن للربّ أن يفعلها معي مرتين، لا لشيء، إلا لأنني لن أحتمل. أنا، شخصياً، هو كل ما يهمّني الآن. فلتغرق البلاد في نفاياتها، فلينهَر اقتصادُها، فليُطرد أبناؤها العاملون في الخليج، ولتمت الدولة ومؤسساتها، لا يهم. فلنقف فقط في الوسط، بين معسكريْن. لسنا في الأصل على المسافة نفسها منهما، ولنستغرق في الخواء والانحلال واللامعنى، بل لنذهب حتى إلى الجحيم، فأنا لم أعد أحتمل:

فكرة البحث مجدداً، كمجنونة، عن الأماكن التي يُهيّأ لي أنها أكثر أماناً من غيرها، لن تطاولها القذائف أو الصواريخ أو الرصاص؛ الاختباء في أماكن معتمة، رطبة، مع أناسٍ تحوّلوا، بفعل الذعر، إلى جرذان؛ انقطاع الكهرباء والغرق في عتمة ما قبل التاريخ؛ وكل ما من شأنه أن يعيد إليّ الإحساس بالخوف، ولو ثواني معدودة، يشلّ أطرافي ودماغي ويجعلني، هذي المرّة، راغبةً بالانتقام من أيٍ كان.

لن أحتمل الحرب مرة ثانية. بل إنني حتى لا أقوى على مجرّد التفكير في احتمال وقوعها. لقد قصمتْ ظهري، في المرة الأولى، قتلتْ رفاقي، سرقتْ مراهقتي وشبابي، أخرجتْني بعد عشر سنوات، كالدودة العارية إلى الغربة، وعلى الرغم من البُعد والمسافة، لم تنزحْ عن كاهلي، وبقيتْ إلى اليوم تُلقي بأثقالها عليّ.

كثـرٌ لن يحتملوا، وإن كانوا اليوم يتبجّحون بأن الأوضاع كانت أفضل حالاً، خلال سنوات الحرب، مما هي عليه الآن. كثرٌ سيتسلّحون. كثرٌ سيهاجرون. وكثر سيموتون، خلال أداء سيناريو سوريالي رديء، يتكرّر للمرة الثانية، وكأنها المرة الألف.

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"