لماذا يخافون ثورة يناير؟

22 يناير 2016
+ الخط -
كتبنا قبل ذلك أن ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر ليست مجرد "جولة"، كما أنها ليست "عورة"، وأنها ليست، كما ادعى بعضهم "مؤامرة". واليوم نكتب أنها لم تكن أبداً "تهمة"، ولا يمكن اعتبارها، في أي حال، "جريمة". تبدأ القصة بواقعة الطبيب طاهر مختار، بعد القبض عليه داخل مقر سكنه. قالت الأمينة العامة لنقابة الأطباء، الدكتورة منى مينا، إن سبب القبض على الطبيب الشاب وتحويله إلى التحقيق اتهامه بالمشاركة في ثورة يناير. وكتبت، في تدوينة لها عبر صفحتها على "فيسبوك"، "أتشرف بالمشاركة في ثورة يناير.. طبعاً الجريمة الحقيقية التي يعاقب عليها طاهر هي المشاركة في جهد النقابة حول الرعاية الصحية للمحتجزين. الكارثة أن هناك من يجرؤ حالياً على أن يوجه اتهاماً رسمياً بالمشاركة في أحداث يناير.. وعشان نجيب من الآخر، بقى أقترح أننا نعمل هاشتاغ ‫#‏ أنا_شاركت_في_ثورة_يناير". وبذلك، نريح الجهات المضطرة لبذل جهد للتقصي عن المجرمين المشاركين في الثورة خصوصاً، وأنهم كانوا ملايين". ‬‬‬‬‬
لماذا، إذن، يخافون من ثورة يناير، لماذا يشوهونها ويجرّمونها، لأن ثورة يناير مثلت هذه اللحظة الثورية التي يجب تحويلها، ليس فقط إلى حالة ثورية، بل إلى "ملحمة" ممتدة ذات نفس طويل. وتعرف حقيقة هذه الحالة الثورية ومتطلباتها الأكيدة استثماراً لحالة الزخم الثوري من ناحية، وقرب العهد بنا من ثورة يناير، باعتبارها فرصة تاريخية، هي وثورات الربيع العربي، أعلنت فيها الشعوب عن وجودها وتأثيرها، وصارت رقماً لا يستهان به في معادلة التغيير، يجب أن تفرض قوي التغيير، وتستثمر بما يحقق أهداف الثورة؛ حماية ومكتسبات وأهدافاً.
يعني هذا، ضمن ما يعنيه، أن الثورة، في حقيقتها، لا تعيّن في أيام أعقبها سقوط رأس النظام التي قامت عليه الثورة، ولا يمكن أن يحتويها مكان، ولا هي جولة استطاعت إنهاءها الثورة المضادة، بأدواتها في الدولة العميقة، وممارسة بعض قدراتها، في حشدٍ في معظمه اصطنعته أجهزةٌ أمنيةٌ، شكلت رأس هذه الثورة المضادة، وتحالفاتها الوثيقة التي جعلت من هذه الثورة هدفاً للتطويق والحصار والإجهاض، فقامت بكل عملٍ لتحقيق أهدافها تلك، وبرّرت بذلك انقلاباً سافراً فاجراً متكامل الأركان، جعلته تتويجاً لعملها، وكأنها تخوض معركتها الأخيرة في هذا المقام. ولكن هذا النصر الذي حققته قوى الثورة المضادة من دون فطنة الثورة والثوار إلى العمل المكافئ للحالة الثورية، حفاظاً عليها وحماية لها، لا يعد إلا خسارةً من هذه الثورة جولة تستنفر قوى الثورة الحقيقية لعمل موجة ثورية أكيدة، تستكمل فيها ملحمتها الثورية بكل طاقاتها، بلوغاً لأهدافها ومقصدها. ولهذا، يخافون من ثورة يناير.
وإذا كانت الثورة ليست "جولة"، فإنها كذلك ليست "فورة"، كما حاول هؤلاء في الثورة المضادة، من خلال أذرعها المختلفة، القميئة والقبيحة، تشويه ثورة يناير، ومحاولة اصطناع حالة جديدة، سمتها ثورة 30 يونيو، مدعية أن ذلك تصحيح لثورة 25 يناير، إلا أنها لم تصبر على هذا الخطاب كثيراً، "خطاب الثورتين"، فأسفرت عن وجهها الانقلابي، لتحاول أن تشوّه ثورة يناير، وثوارها الذين آمنوا بها، وشاركوا فيها، وقامت بعمليات إعلامية وفضائية ممنهجة للإجهاز على هذه الثورة ورموزها، ضمن عملية فك ارتباط كبرى بين الشعب وثورته، وضمن حالة تحريض كبرى على ثورة يناير، لنعتها بكل النعوت السلبية، ومحاولة تجريم رموزها، حتى وصفها من وصفها بكل نقيصة فهي "ثورة خساير"، وهي "مؤامرة" اصطنعت حالة فوضى، وأنها تسببت في تفكيك الدولة وخراب الوطن، في محاولة لإعفاء الثورة المضادة من أي مسؤولية. ومن المؤسف أن ينطلي ذلك على بعضهم، وهو أمر يحتاج منا كشف النقاب عن هذه الخطة الانقلابية الممنهجة التي تحاول جعل الجولة التي انتصرت فيها قوى الانقلاب نهاية للتاريخ، وأن ثورة يناير انتهت، ووصمتها بكونها (عورة) من الواجب التبرؤ منها، أو إعلان من أهلها أنها فشلت وانهزمت. ولكن، هيهات هيهات، فالثورة مستمرة، ولذلك يخافون من ثورة يناير.
ومن الأهمية بمكان أن نعرف أن السنوات الخمس التي مرت بعد الثورة أحدثت تطوراً نوعياً،
جعلنا بحق نتعرّف إلى خصوم هذه الثورة، وتعيين القوى التي تحاول إجهاض هذه الثورة، حتى لو تزينت، وقتاً ما، بأزياء زائفة، ادعت الثورة، وتسربلت بلباسها، كما تعرّفت على قوى الثورة الحقيقية، وطبيعة معاركها الحقيقية. إن معرفة الميدان والمعركة في حقيقتهما ليست أمراً هيناً، ولكن هو أول عمليات الإحياء الثوري في حالته الإدراكية. ولذلك، يخافون من ثورة يناير.
هذه الحالة الثورية، وتمكّن الثورة المضادة، وانتقالها إلى مرحلة وأد الثورة كاملة، بالتخلص من الثورة والثوار، الثورة بتشويهها، الثوار بتجريمهم ضمن حالة إعلامية وقضائية شديدة الخطورة، تعمل بالتحريض والقمع، يفرض على قوى الثورة ضرورة البحث عن نقطة انطلاق حقيقية، لإعادة الثقة، وبنائها من جديد للانطلاق إلى حالةٍ ثوريةٍ جديدة ومستجدّة، مستأنفة ومستمرة، تشكل هذه الثقة الرصيد الأساسي الذي تستند إليه هذه القوى في فعلها الثوري الرصين مستقبلاً. ولذلك، هم يخافون من ثورة يناير.
غاية الأمر في هذا المقام، وفي ضوء هذه المقدمات المهمة، هو الإعداد "لمعركة النفس الطويل" و"النصر الأكيد". قوى الثورة المضادة تود أن تميل قوى الثورة عن قدراتها وأسلحتها الحقيقية التي تتسلح بها، في معركة النفس الطويل التي نجعل من شعارها "هم العدو فاحذرهم". ومجمل الأمر كذلك، ليس فقط في استثمار أكيد للحظة الثورية والحالة الثورية المرتبطة بها، ومحاولة لرصد تلك الحالة الثورية، وتبين قسمات مشروع الثورة الحقيقية، والثورة المضادة التي تواجهها، لكن مناط العمل في إحياء ثوري حقيقي، يقع في تدشين مشروع ثوري بديل لحالة انقلابية، قطعت الطريق بخارطتها على مسار ديمقراطي، إنه المسار الثوري بكل ما يتطلبه هذا المقام. ولهذا، فإنهم يخافون من ثورة يناير.
القوى الثورية الأخرى وحدها، وكذا "الإخوان" لا تستطيع أي منها الحسم وحدها في معركة النفس الطويل، وهو أمر أكدته خبرة ثورة يناير، وأن اصطفاف هذه القوى إنما يشكل امتثالاً لهذه القدرة الثورية ضمن سياقاتٍ مرحليةٍ، لا يصلح فيها مسارات الاستبعاد أو التنافر، أو في القوى الثورية لبعضها. ولكن، علينا، وفي مواجهة سياسة استهداف الثورة وقواها الفاعلة والرمزية، أن نعطي الرسالة قويةً واضحةً أن وحدة الاستهداف تدفع لزوماً لوحدة الهدف في حماية الثورة وضرورات الإحياء الثوري. ولهذا، فإنهم يخافون ثورة يناير.
التحسب للثورة المضادة والقيام بالاصطفاف الواجب لا يصلح وحده ليكون أساساً وتأسيساً لانطلاقة ثورية جديدة، بل إن صناعة وتصنيع حاضنة شعبية حقيقية، وظهير شعب يشكل شلالاً شعبياً لدعم الثورة وأهلها وقواها عمل مكمل لا يجوز بحال التغافل عنه، ذلك أن القوة وامتلاك مصادرها التي تتباهى بها أجهزة أمنية وجنرالات المؤسسة العسكرية الذين قادوا انقلاباً فاجراً واضحاً، لا يمكن موازنة هذه القوة، إلا بشعب حاضن لهذه الثورة، ينتفض معها ويدعمها. ولذلك، هم يخافون ثورة يناير.
فشل المنظومة الانقلابية في إدارة البلاد وتدبير معاش العباد أهم مصانع الغضب ومعامله، بما يمكّن من ضرورة استثمار الأرضية الشعبية والنوعية في الإعداد والتهيئة لموجة ثورية وإدارة ما يمكن تسميتها ثورة التوقعات. ومن ثم، فإن خطة فك ارتباط الناس بثورتهم، والإيحاء بأنها السبب الأساسي في متاعبهم، والتضييق عليهم في معاشهم، هي محاولات ستبوء كلها بالفشل الذريع، لو استخدمنا خطاباً واعياً يستثمر هذه الحالة، نسميه "خطاب المعاش"، يحمل جملة من الشعارات، تشكل ركناً في مسار العدالة الاجتماعية والعيش الكريم. ولذلك، هم يخافون ثورة يناير.
كانت ثورة يناير صانعة الأمل، وستكون صانعة المستقبل. ولذلك، يخافون ثورة يناير.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".