11 نوفمبر 2024
لعبة الأخلاق والسياسة: الحنين إلى الاستبداد
على خلاف انحباس الأمطار في فصل الخريف، وهو الفصل الذي تحبس فيه أنفاس التونسيين، بمختلف فئاتهم، متطلعة إلى السماء، فإن طوفان الفضائح الأخلاقية مازال مرتفع المنسوب في الأسابيع الأخيرة، لينال، بشكل خاص، صفوف رموز الحزب الحاكم وقياداته، حتى أغرقت تلك الفضائح مواقع التواصل الاجتماعي، وشغلت الرأي العام بشكل محير، وقد انقسم إلى معسكرين متحاربين.
يقبل الرأي العام، وبكثيرٍ من النهم على استهلاك تلك الأخبار، منقسماً بين التشفي والتعاطف، في حين يذهب أنصار الحزب الحاكم (مع حلفائه) إلى اعتبار ما يحدث حالياً تصفية حسابات بين الأجنحة المتصارعة داخل حزب نداء تونس ذاته، أو ضحية مؤامرةٍ تستهدف حزبهم من خصومه السياسيين، ويلوح بعض هؤلاء، تارة ضمنياً وتارة صراحة، إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وهو حزب الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، والذي غادره بعد انتخابات 2014 لتأسيس حزب آخر . وبعيداً عن إثبات هذه الأطروحة أو تلك، وهي التي لا تعنينا أصلاً، فإن ما يحدث، حسب رأينا، يندرج في إطار إعادة تشكيل الثقافة السياسية التي يراد لها إجهاض تجربة الانتقال الديمقراطي برمته، أي جملة القيم والصور التي يُراد شد الممارسة السياسية إليها، بما فيها من فاعلين وقوى وأطروحات، حتى تنتهي إلى صياغة حالة من اليأس والنقمة على الثورة التي عرفتها البلاد، منذ أكثر من خمس سنوات.
نستند في إثبات ما ذهبنا إليه إلى جملةٍ من الفرضيات، لعل أولاها التي ترى أن حركة النهضة، وهي المعنية أكثر من غيرها بتخليق الحياة السياسية، سواء بحسب الصور النمطية الرائجة عنها، أو انتظارات الناس منها، قد فشلت فشلاً ذريعاً في ذلك، بل إنها لم تعد معنيةً، بمسألة الأخلاق عامة، فالفساد، في بعده الأخلاقي بالذات، قد طفا حتى كاد يغطي جميع مجالات الحياة الاجتماعية، فكدنا نصل، حسب هذا الرأي العام نفسه، إلى مرحلة الانهيار. ثمّة طوفان من تلك التجاوزات التي كادت تغرق الفضاء الافتراضي، منها على سبيل الذكر لا الحصر، الصور التي تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي لمواطنين تونسيين يتجرأون على سقي الخمر أبناءهم وارتكاب الرذائل بكل تبجح... إلخ، فضلاً عن شيوع أنواعٍ مقرفةٍ من الجريمة الاجتماعية. سيهيئ هذا الأمر الناس تدريجياً إلى اعتبار "النهضة" مجرد حزب كبقية الأحزاب الأخرى، أي فاقداً كل رصيد أخلاقي مسبق. وهي تعلم أن جزءاً من توسم الخير فيها يعود إلى هذه الصورة بالذات، خصوصاً وقد تزامن ذلك مع قرار "النهضة" في مؤتمرها في بداية الصيف الفارط، فصل الدعوي عن السياسي، في سياق غدت تدرك فيه أن شبهة الإرهاب وسياسة تجفيف المنابع الناعمة، هذه المرة التي شملت جمعيات خيرية وشخصيات دعوية لم يثبت قضائياً تورطها في شبهات تمويل، أو أعمال ذات صلة بخطاب الكراهية أو العنف، قد تحرق بعض حقولها.
الفرضية الثانية التي يمكن أن تفسر لنا أيضاً هذا الجنوح الخطير لترذيل المشهد السياسي هي
صناعة الحنين إلى الماضي القديم الذي لم تصل فيه "الفضائح الأخلاقية" في الحياة السياسية إلى مثل هذا المستوى من الانحدار. لا يبحث المواطن البسيط عن تفسيراتٍ عميقةٍ، قد ترجعها إلى القبضة الحديدية التي كان يدير بها النظام البائد الإعلام، ما يجعل تلك التجاوزات والجرائم تقع وراء جدران سميكة، يستحيل اختراقها تحت مفاعيل الخوف، وعلى نحو يحولها إلى رهينةٍ، يبتز بها تلك الأطراف. وقد شكّلت تلك "الملفات" إحدى آليات صناعة الخضوع والولاء. أما وقد تعمم الإعلام عنها حتى غدت طوفاناً جارفاً، فإن الأوساط الشعبية الواسعة من الرأي العام ذاك ترى أن هذه الطفرة الكمية والنوعية من التجاوزات، مقارنةً مع ما كان يجري إبّان فترة النظام المخلوع تبرّر لديها الحنين إلى النظام السابق نفسه، وهو الذي بان أنه أطهر أخلاقياَ من نظم ما بعد الثورة، حسب اعتقادها. علينا ألا ننكر أن هناك في تونس من يتمنى عودة النظام البائد لهذا السبب بالذات.
هذا الطوفان من الفضائح الأخلاقية الحقيقية والباطلة ستؤدي، في النهاية، لو تواصلت وتيرتها بهذا الشكل ولم تتصدّ لها النخب الثقافية والسياسية في المدى القصير إلى مزيد من إلهاء الرأي العام، وتحويل وجهة اهتماماته عن المسائل الحقيقية التي تشكل كارثةً محدقة بالبلاد، إن لم نجد لها الحلول المثلى في المدى المنظور، على غرار الوضع الاقتصادي الصعب واستفحال البطالة وعجز ميزانية الدولة والمديونية الخانقة، إضافة الى فقدان الدولة هيبتها واستشراء الفساد الذي ينخر مفاصل الدولة.
غير أن قراءة أولية لردود أفعال النخب السياسية التونسية، وحتى الثقافية، وجزء كبير من الرأي العام، تفيد بأن مثل هذه المواضيع التي يفترض أن تكون من مضامين الصحف الصفراء ما زالت هي التي تهز الرأي العام، أكثر من قضايا الفساد السياسي والاقتصادي التي تبرهن تقارير وطنية ودولية ارتفاعها الملحوظ. ومع ذلك يظل الخاسر الأكبر في ذلك كله هو الحياة السياسة في تونس، وصورة الفاعلين السياسيين بشكل خاص، فقد عجزت "النهضة"، حسب اعتقادهم، عن تخليق المشهد السياسي، في حين أن "نداء تونس" قد فشل في الدفاع عن الحداثة التي يزعمها، "فالنمط" الذي بشر به يتراجع، حتى لدى قياداته وأنصاره، لفائدة ثقافة تقليدية لم تتخلص من التلصص والفضيحة بالمعنى التقليدي، حيث تغدو سير الناس وأسرارهم الأكثر حميميةً طبقا مفضلا لإعلامٍ لم يستفد من سماء الحرية، إلا بما يغذي ثقافة التلصص والفضيحة تلك. سيكون عبورنا مرحلة الانتقال الديمقراطي عبوراً تراجيدياً، ذلك أننا ننزع عنا كلما توهمنا التوغل فيه ما به نتدثر عند الأزمات: القيم.
يقبل الرأي العام، وبكثيرٍ من النهم على استهلاك تلك الأخبار، منقسماً بين التشفي والتعاطف، في حين يذهب أنصار الحزب الحاكم (مع حلفائه) إلى اعتبار ما يحدث حالياً تصفية حسابات بين الأجنحة المتصارعة داخل حزب نداء تونس ذاته، أو ضحية مؤامرةٍ تستهدف حزبهم من خصومه السياسيين، ويلوح بعض هؤلاء، تارة ضمنياً وتارة صراحة، إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وهو حزب الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، والذي غادره بعد انتخابات 2014 لتأسيس حزب آخر . وبعيداً عن إثبات هذه الأطروحة أو تلك، وهي التي لا تعنينا أصلاً، فإن ما يحدث، حسب رأينا، يندرج في إطار إعادة تشكيل الثقافة السياسية التي يراد لها إجهاض تجربة الانتقال الديمقراطي برمته، أي جملة القيم والصور التي يُراد شد الممارسة السياسية إليها، بما فيها من فاعلين وقوى وأطروحات، حتى تنتهي إلى صياغة حالة من اليأس والنقمة على الثورة التي عرفتها البلاد، منذ أكثر من خمس سنوات.
نستند في إثبات ما ذهبنا إليه إلى جملةٍ من الفرضيات، لعل أولاها التي ترى أن حركة النهضة، وهي المعنية أكثر من غيرها بتخليق الحياة السياسية، سواء بحسب الصور النمطية الرائجة عنها، أو انتظارات الناس منها، قد فشلت فشلاً ذريعاً في ذلك، بل إنها لم تعد معنيةً، بمسألة الأخلاق عامة، فالفساد، في بعده الأخلاقي بالذات، قد طفا حتى كاد يغطي جميع مجالات الحياة الاجتماعية، فكدنا نصل، حسب هذا الرأي العام نفسه، إلى مرحلة الانهيار. ثمّة طوفان من تلك التجاوزات التي كادت تغرق الفضاء الافتراضي، منها على سبيل الذكر لا الحصر، الصور التي تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي لمواطنين تونسيين يتجرأون على سقي الخمر أبناءهم وارتكاب الرذائل بكل تبجح... إلخ، فضلاً عن شيوع أنواعٍ مقرفةٍ من الجريمة الاجتماعية. سيهيئ هذا الأمر الناس تدريجياً إلى اعتبار "النهضة" مجرد حزب كبقية الأحزاب الأخرى، أي فاقداً كل رصيد أخلاقي مسبق. وهي تعلم أن جزءاً من توسم الخير فيها يعود إلى هذه الصورة بالذات، خصوصاً وقد تزامن ذلك مع قرار "النهضة" في مؤتمرها في بداية الصيف الفارط، فصل الدعوي عن السياسي، في سياق غدت تدرك فيه أن شبهة الإرهاب وسياسة تجفيف المنابع الناعمة، هذه المرة التي شملت جمعيات خيرية وشخصيات دعوية لم يثبت قضائياً تورطها في شبهات تمويل، أو أعمال ذات صلة بخطاب الكراهية أو العنف، قد تحرق بعض حقولها.
الفرضية الثانية التي يمكن أن تفسر لنا أيضاً هذا الجنوح الخطير لترذيل المشهد السياسي هي
هذا الطوفان من الفضائح الأخلاقية الحقيقية والباطلة ستؤدي، في النهاية، لو تواصلت وتيرتها بهذا الشكل ولم تتصدّ لها النخب الثقافية والسياسية في المدى القصير إلى مزيد من إلهاء الرأي العام، وتحويل وجهة اهتماماته عن المسائل الحقيقية التي تشكل كارثةً محدقة بالبلاد، إن لم نجد لها الحلول المثلى في المدى المنظور، على غرار الوضع الاقتصادي الصعب واستفحال البطالة وعجز ميزانية الدولة والمديونية الخانقة، إضافة الى فقدان الدولة هيبتها واستشراء الفساد الذي ينخر مفاصل الدولة.
غير أن قراءة أولية لردود أفعال النخب السياسية التونسية، وحتى الثقافية، وجزء كبير من الرأي العام، تفيد بأن مثل هذه المواضيع التي يفترض أن تكون من مضامين الصحف الصفراء ما زالت هي التي تهز الرأي العام، أكثر من قضايا الفساد السياسي والاقتصادي التي تبرهن تقارير وطنية ودولية ارتفاعها الملحوظ. ومع ذلك يظل الخاسر الأكبر في ذلك كله هو الحياة السياسة في تونس، وصورة الفاعلين السياسيين بشكل خاص، فقد عجزت "النهضة"، حسب اعتقادهم، عن تخليق المشهد السياسي، في حين أن "نداء تونس" قد فشل في الدفاع عن الحداثة التي يزعمها، "فالنمط" الذي بشر به يتراجع، حتى لدى قياداته وأنصاره، لفائدة ثقافة تقليدية لم تتخلص من التلصص والفضيحة بالمعنى التقليدي، حيث تغدو سير الناس وأسرارهم الأكثر حميميةً طبقا مفضلا لإعلامٍ لم يستفد من سماء الحرية، إلا بما يغذي ثقافة التلصص والفضيحة تلك. سيكون عبورنا مرحلة الانتقال الديمقراطي عبوراً تراجيدياً، ذلك أننا ننزع عنا كلما توهمنا التوغل فيه ما به نتدثر عند الأزمات: القيم.