لبنان.. ضرورة الدولة وطريقها المسدود

09 فبراير 2018
+ الخط -
وصفَ وزير الخارجية اللبنانية، جبران باسيل، حال الكيان اللبناني، المتمنِّع على التغيير، الواقع في ضرورة بناء الدولة المركزية والفاقد أسس هذا البناء، قائلاً، قبل أيام، إنه لا يمكن بناء الدولة مع حزب الله، من دون أن يضيف إليه بقية الفرقاء اللبنانيين، ورثة "الصيغة اللبنانية"، المعروفة بصيغة 1943، وغيرهم من نواتج الحرب الأهلية اللبنانية. وربما، بفشّة خلقٍ، أرادها أن تشي بما يعتمل في نفسه التي أصبحت في أهم موقع دبلوماسي في البلاد، إلا أنها أظهرت تناقضاً في الرجل، وفي تياره المتحالف مع حزب الله اللبناني، موضوع انتقاده، والمتعايش مع حركة أمل اللبنانية التي نال رئيسها نصيبه من سهامه المتطايرة هذه الأيام.
وموضوع بناء الدولة اللبنانية، وتعجيز بنائها، موضوعٌ قديم قائم في لبنان، ودائم التناول والطرح. يتناوله هذا الفريق المشارك في السلطة اللبنانية، أو ذاك، ويرفع شعاره، حين يشعر أن حصته من الكعكة الحكومية أو التعيينات الإدارية والعسكرية قد انتُقِصت. لكن هذا الفريق عينه لا يلبث أن يُجابه دعاة بناء الدولة وإحلال القانون، من خارج السلطة، وأصحاب المصلحة الحقيقية في بنائها، ويواجههم في الساحات التي لا يجدوا غيرها منبراً لهم للمطالبة بإحلال سلطتها محل سلطة أمراء الطوائف المتسيِّدة، بحكم الأمر الواقع الذي تفرضه التوافقات الطائفية، المعمول بها لتشكيل الحكومات اللبنانية والمجلس النيابي. وهي توافقاتٌ تستند في مجملها إلى إيديولوجيا سادت في لبنان، ولا تزال سائدة، تقول بفرادة لبنان في تركيبه الطائفي، فرادة تقارب الأعجوبة العصية على التفسير، في نظر دعاتها الفرحين بها الذين غاب عن بالهم أن هذه الفرادة هي سبب الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشر عاما، والتي دمرت البلاد، والقابلة للعودة بسرعة، حين يرى الأمراء مصلحة في اشتعالها.
وكان الوزير باسيل قد صرّح، في مقابلة مع مجلة ماغازين الفرنسية، في الثاني من فبراير/ 
شباط الجاري، عن علاقة تياره، التيار الوطني الحر، بحزب الله، المرتبط معه بوثيقة تفاهم تعود إلى 6 فبراير/ شباط 2006: "إن التفاهم سيستمر إلى فترةٍ طويلةٍ"، "وثمّة قرارات يتخذها الحزب، في الموضوع الداخلي لا تخدم الدولة، وهذا ما يجعل لبنان يدفع الثمن، وأن بنداً في الوثيقة يتعلق ببناء الدولة، لا يطبِّقه حزب الله بحجة الاعتبارات الاستراتيجية"، وهو القول الدقيق الذي عاد فأكده المكتب الإعلامي التابع للوزير باسيل، بعد اللغط الذي ساد في الإعلام. ولكن، وحيث إن الأجواء لا تزال واقعةً تحت تأثير تصريح باسيل، في لقاءٍ عام، نهاية الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، والذي تناول فيه رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، واصفاً إياه بالبلطجي، فقد انتشر بسرعةٍ ما جاء في المقابلة في الإعلام، وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ووجد فيها المعلقون افتراقاً بين التيار وحليفه من الطائفة الشيعية. كما أن هنالك من تطرَّق إلى عنوان المقابلة، فترجمها حرفياً، حيث ركزَّت إحدى الفضائيات، المشهود لها بالمهنية، على عنوان المقابلة، فحسب، وهو: "مع حزب الله طريق بناء الدولة طريقٌ مسدود"، وهو عنوان يختصر أهم ما جاء في المقابلة، وحال الكيان اللبناني أيضاً.
وبغض النظر عن وجود أي خلافٍ بين هذه الأطراف، إلا أن من الغريب صدور هذا الخطاب عن رئيس التيار الوطني الحر الذي دعا أنصاره، في أغسطس/ آب 2015، إلى النزول إلى الشارع والتظاهر لمواجهة أنصار حملة "طلعت ريحتكن" التي خرجت للاحتجاج على سياسة الفساد التي تنتهجها السلطة اللبنانية. وطالبت تلك الحملة، حينها، بإحلال القانون لمحاسبة الفاسدين. يومها هرع أنصار حزب الله، من كل المناطق اللبنانية، إلى مناصرة حليفهم، التيار الوطني الحر، في مظاهرته، وتمازج اللونان، الأسود والبرتقالي، وتكاتفا من أجل إعادة الشعارات التي قال الجنرال، ميشال عون، إن المحتجين "سرقوها". لذلك يجدر التساؤل، الآن، عن سبب استفاقة الوزير باسيل على ما تشكله ممارسة حزب الله من عائق أمام بناء الدولة، في حين نزل الفريقان، يومها، إلى الساحة المقابِلة لمواجهة دعاة بناء الدولة، أولئك، وانتزاع شعاراتهم من بين أياديهم. كما تتجلى الغرابة من تصريحات باسيل بشأن بناء الدولة، بسبب ممارسة انتهجها التيار، وسببت تعطيل الحياة السياسية في البلاد، حين شارك في منع انتخاب رئيسٍ للبلاد، ما أدى إلى شغور المنصب سنتين ونصف السنة. وكان لافتاً، حينها، أن نبيه بري، ذاته، كان من بين المعطلين، وصدرت عنه تهديداتٌ خطيرةٌ بعودة الحرب الأهلية إذا انتُخِبَ ميشال عون رئيساً. إضافة إلى ذلك، يأخذ بعضهم على التيار مناداته بالإصلاح، وكَيْلِ الوعودِ للشعب بهذا الإصلاح، من دون الوفاء بها.
لا يعلم أحدٌ إن كانت تصريحات باسيل آنيّة، أم أنها تأتي بسبب نهجٍ جديد يتّبعه التَّيار، ويهدف 
إلى دعم الدولة. لكن هنالك من ردّها إلى تهديد بري أبناء الطائفة الشيعية المغتربين بمنعهم من العودة إلى لبنان والتضييق عليهم، حين يعودون، إذا شاركوا في فعاليات مؤتمر "الطاقة الاغترابية" الذي تنظمه وزارة الخارجية اللبنانية. لكن كلاماً للوزير باسيل، في المقابلة عينها، يضرب إحدى ركائز المواطنة الحقة التي لا تعترف بتكتلاتٍ طائفية، بل باندماج الجميع بالدولة وليس بالطائفة. وهو كلامٌ يعكس رؤيته الطائفية، ويكرس إحدى موانع بناء الدولة، إذ يقول: "التيار الوطني الحر حريصٌ على وحدة المسيحيين، ولكن ليس على حساب الدولة ومحاربة الفساد". إذا هو حريص على محاربة الفساد، لكنه، في الوقت عينه، حريصٌ على تكتلِّ فريق طائفي، ربما في وجه الفرقاء الطائفيين الآخرين، فكيف تبنى الدولة بتفارق أبنائها طائفياً. ولا يحيلنا كلامه سوى إلى أصحاب إيديولوجيا "فرادة لبنان في تركيبه الطائفي"، فهؤلاء لا يرون دور الدولة سوى في مؤسسة الطوائف في الدولة، فتغدو الطوائف مؤسساتٍ، أين منها مؤسسات الدولة؟ وتنحصر حينذاك مهمة الدولة في صيانة ارتباط الطوائف فيها وارتباطها بالطوائف.
إزاء هذا الواقع، يجري تغييب الصوت الذي يرى بضرورة الدولة مؤسساتٍ للجميع. الدولة القوية التي تضطلع بمهمات صيانة حدودها وحماية حياة أبنائها ومستقبلهم. ويصطدم هؤلاء بمن يُزاود عليهم بشعارات بناء الدولة والإصلاح ومحاربة الفساد، وهو الذي يدعو إلى تقوية الدولة، ولكن أي دولة؟ إنها الدولة القوية التي تُؤبِّد النظام السياسي الطائفي، التوافقي الذي يُؤمِّن التوازن بين الطوائف، الطوائف التي لا تسود زعامتها إلا بالتحاصص، وهو التحاصص الذي تنتهي عنده كل الخلافات، فتأتي تصريحات باسيل من باب تكريس موقع القوة لتكريس الحصص التي تنتظر الانتخابات النيابية المقبلة، لكي تتبدى في نتائجها نسباً وازنة.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.