كونفدرالية دول الساحل... غياب الديمقراطية عائقاً
بعد توقيعها ميثاقاً للدفاع المشترك، في سبتمبر/ أيلول الماضي، أعلنت دول الساحل الأفريقي الثلاث، النيجر ومالي وبوركينا فاسو، في قمّتها في 6 يوليو/ تموز الجاري، عن تبنّيها معاهدة لإقامة تجمّع إقليمي يضمّها في اتحاد كونفدرالي للوصول إلى "مرحلة إضافية نحو اندماجٍ أكثر عمقاً" بينها، كما جاء في بيان القمّة. ويطرح هذا الإعلان أسئلة جدّية بشأن الهدف الحقيقي لهذا التجمّع، خصوصاً بعد إعلان هذه الدول انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وكذلك بسبب العقلية الانقلابية التي جاءت بزعمائها إلى السلطة، والتي لا ترى عادة أسلوباً للحكم سوى التفرّد بالقرار السياسي والاقتصادي ونفي الآخر. ويعد هذا الأسلوب العائق الذي ثبت أنه يقف في وجه أي تكامل بين الدول، وفي وجه أي تنميةٍ حقيقيةٍ تحتاج الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وإشراك الفاعلين لإنجاعها، وهو أمر يرفضه الانقلابيون دائماً، ما يجعل لاتحادهم هدفاً آخر غير الذي أعلنوه.
إذاً، وبعد أن حدثت انقلابات في دول الساحل الأفريقي الثلاث بين عامي 2020 و2023، وجاءت بجنرالاتٍ إلى الحكم، وقَّعت هذه الدول ميثاق "ليبتاكو - غورما" للدفاع المشترك، وهو تحالفٌ دفاعيٌّ يهدف إلى إنشاء هيكلية مشتركة، هدفها مكافحة الإرهاب، ومحاربة الجماعات المسلحة وتأمين الحدود، والمواجهة الجماعية لأي هجومٍ تتعرّض له إحدى دول الميثاق. وقال محللون إن توقيع الميثاق جاء ردّاً على تهديد المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بالتدخّل في النيجر بعد انقلاب يوليو/ تموز 2023، من أجل إعادة الرئيس المنتخب محمد بازوم والحكم المدني للبلاد. واستكمالاً لهذا الميثاق، عقد زعماء الدول الثلاث؛ النيجر، الجنرال عبد الرحمن تياني، وبوركينا فاسو، النقيب إبراهيم تراوري، ومالي، العقيد أسيمي غويتا، قمة في نيامي، عاصمة النيجر، في 6 يوليو/ تموز الجاري، وأعلنوا قيام الكونفدرالية.
بالإضافة إلى الدوافع، والتجاور الحدودي وكونها دولاً داخلية، تبدو حاجة هذه الدول إلى كونفدرالية من هذا النوع ماسّة، بسبب صعف اقتصاداتها وحاجتها لتجاوز فقر الخدمات الصحية والتعليم، والتكامل في قطاعات الطاقة والمياه والزراعة والنقل، خصوصاً أن قطاعاتها الاقتصادية الرئيسة تشمل الزراعة وتربية الماشية والتعدين الواعد، لكن الذي يعاني مشكلات في الوقت عينه. كما يوجد بين أنظمة الدول الثلاث جامع يجعلها أكثر قرباً لبعضها من أي دولٍ أخرى، هي العقيدة العسكرية التي تتحكم بها نتيجة وصول حكامها العسكريين إلى السلطة عبر انقلابات جرت في فترات متقاربة في ظل العداء المتنامي داخلها لفرنسا وأميركا. كما يوحدها تاريخ طويل من الوقوع تحت نير الاستعمار الأوروبي، وتحكُّم القوى الكبرى بسياساتها واقتصادها، ما تسبب بضعف الاقتصاد وحدوث اضطرابات وعدم استقرار بسبب تعرض البلدان الثلاثة لموجات من الإرهاب من الجماعات الجهادية والحركات المسلحة والانفصالية وغيرها، نتيجة عدم قدرة كياناتها الضعيفة عسكرياً على مواجهات هذه التحديات. كما أن تاريخاً طويلاً من الاستغلال الاستعماري الذي تعرضت له أفقَرَ هذه البلدان، وتسبب بموجات من الهجرات الجماعية واللجوء.
ادّعت المجالس العسكرية تحديد مواعيد لتسليم السلطة للمدنيين وفق مراحل انتقالية، كما ادّعت أنها سوف تنظم انتخابات، لكنها سرعان ما نقضت وعودها وضيّقت على المعارضين
انطلاقاً من هذا الواقع، أدركت أنظمة دول أفريقية كثيرة أن مكافحة الإرهاب، هذا المبرّر الذي اعتمدت عليه فرنسا لزيادة وجودها العسكري في بعض دول القارّة، والعمليات العسكرية التي شنتها في هذا الإطار، لم تنجح، بل أدّت إلى زعزعة الاستقرار وانتشار أعمال العنف، وبالتالي زيادة معدلات الهجرة وإضعاف الاقتصاد. وأدى هذا الأمر بالأفارقة إلى التساؤل الجدي حول السبب الحقيقي لاحتفاظ فرنسا بقواعد عسكرية في أفريقيا، وهي المتهمة دائماً بوجود يد لها في انقلابات عديدة أو دعم ديكتاتوريات أو إطاحتها وفق ما تقتضي مصلحتها. وكان من دول الساحل أن أمرت القوات الفرنسية والأميركية بمغادرة قواعدها في هذه الدول. ومقابل ذلك، عمدت أنظمتها إلى زيادة التعاون مع الصين وروسيا، إلى درجة أن قوات فاغنر الروسية شاركت في بعض العمليات العسكرية، مثل معركة استعادة مدينة كيدال، فور إعلان رئيس المجلس العسكري في مالي، أسيمي غويتا، نيته الشروع فيها، ما أدّى إلى تزايد النفوذ الروسي في هذه الدول.
وإزاء هذا الاتحاد، يُطرح سؤال جوهري: هل يمكن لأنظمة عسكرية انقلابية، يتفرد قادتها بالسلطة، أن تنتهج نهجاً كونفدرالياً يتطلب في مراحل متطورة تنازل هذا الحاكم أو ذاك عن بعضٍ من سلطاته لصالح رئيس أو هيئة مستقلة أو حكومة مركزية تعمل على تنسيق سياسات الدول المشمولة فيه وتوحيدها في قطاعاتٍ ومجالات معينة، وفي التعاطي مع الدول الأخرى وموافقة الحاكم عليها؟ كما أن تحدّيات التنمية تتطلب توفير شرط إشراك جميع قوى المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها، فهل يوافق انقلابيون على شرطٍ من هذا القبيل ويسمحون بالعمل السياسي وعمل الأحزاب ونشاط منظّمات المجتمع المدني للمشاركة في القرار وتصويب سياسات الحكام في حال الخطأ؟
يتبيّن من بعض شعاراتٍ طرحتها المجالس العسكرية في الدول الثلاث، ومنها "لا ديمقراطية وفق مقاسات الغرب"، وكلامها أن ديمقراطية جديدة خاصة بدولها يجب اعتمادها، أنها سوف تستمر بالاستئثار بالسلطة وقمع المعارضين. فلأن الديمقراطية هي ذاتها لا تتغيّر، ولا تتغيّر أسسها والمبادئ التي تقوم عليها، تشي المعطيات بما يخالف هذا الاتجاه. فقد ضاقت المجالس العسكرية في دول الساحل الثلاث ذرعاً بالقوى المدنية التي تطالب بحرية الرأي وتسليم السلطة للمدنيين أو إجراء انتخابات برلمانية أو رئاسية.
لا يمكن الحكم على فرص قيام كونفدرالية دول الساحل واستمرارها ونجاحها إلا إذا ما صفَّرت هذه الدول مشكلاتها الداخلية مع الفاعلين على الأرض
بداية، واستجابة لهذه المطالب، ادّعت المجالس العسكرية تحديد مواعيد لتسليم السلطة للمدنيين وفق مراحل انتقالية، كما ادّعت أنها سوف تنظم انتخابات، لكنها سرعان ما نقضت وعودها وضيّقت على المعارضين. وفي هذا الإطار جمَّدت مالي عمل الأحزاب السياسية وحلت بعض منظمات المجتمع المدني، واتُهم المطالبون بإجراء انتخابات بأنهم يخدمون مصالح أعداء البلاد. وجرى تنظيم حوارات وطنية في النيجر وبوركينا فاسو، لمناقشة موضوع الانتخابات والفترات الانتقالية، غير أنها كانت تحسم لصالح بقاء العسكر في الحكم لسنوات مقبلة. وفي استمرارها في هذا النهج في القمع والتفرد بالسطلة، تتغافل المجالس العسكرية عن أحد أهم عوامل الاستقرار التي تزعم أنها انقضَّت على السلطة لتحقيقه، ولتعزيزه من أجل تحقيق التنمية، وبالتالي تقامر في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى العمل الجدي والشفاف.
لا يمكن الحكم على فرص قيام كونفدرالية دول الساحل واستمرارها ونجاحها إلا إذا ما صفَّرت هذه الدول مشكلاتها الداخلية مع الفاعلين على الأرض من قوى سياسية ومعارضين، وصفرتها أيضاً مع دول الجوار لزيادة الاستقرار والتبادل التجاري وغيره من النشاطات الاقتصادية البينية. غير أن خروج هذه الدول من تجمّع دول الساحل الخمس، ثم بعدها من إيكواس، وحصول مشكلات بين النيجر ودولة بنين التي تحتاج إلى النيجر موانئها لتصدير النفط الضروري لتنميتها، فعزلت نفسها عن محيطها في وقتٍ تحتاج فيه إلى جعل تجمعها جاذباً لدول أخرى، يشير إلى أن كونفدرالية دول الساحل ليست سوى تحالف عسكري لحماية الأنظمة الانقلابية فيها أكثر منه اقتصادياً أو سياسياً، وبالتالي تؤكد أن فرص استمراره قليلة وربما تنتهي مع نهاية الانقلابات التي لا يرجى عادة منها تنمية أو تحضّر.