03 اغسطس 2014
لبنانيون وعقدة الرقم "1"
قاسم يوسف (لبنان)
جمعتني المصادفة يوماً بطبيب أسنان دخل عقده الرابع، وفي جعبته كمٌّ وافر من الأحلام، فبالإضافة إلى عمله طبيباً، أسس مختبراً ومطعماً ومحطة لتوزيع الكهرباء، وأخرى لتوزيع القنوات التلفزيونية والإنترنت. لاحقاً، تحولت العلاقة بيننا صداقة، فراح يحدثني دورياً عن أحلامه التي لا تنضب، وعن مشاريع ينوي استحداثها في غير مكان. وأنا لا أبرح أحدّق في عينيه، وأستقي منه ما تيّسر من كلماتٍ، قد تنتهي بشكل مباغت جراء فكرةٍ طارئةٍ، تقوده إلى تنفيذ مشروع جديد. لا شيء كان يحضرني في جلساته أكثر من مقولة أحفظها عن ظهر قلب للخليفة الأموي، عمر بن عبد العزيز "إن لي نفساً تواقة، ما نالت شيئاً إلا وتاقت لما هو أعلى منه".
عرفت، لاحقاً، أن صديقي ماروني، وأنه، كما غالبية الموارنة، يتوق لبلوغ الرقم "1". صحيحٌ أنها نزعة بشرية، رافقت عموم الناس منذ فجر التاريخ، لكنها حالة خاصة، طبعت صورة الموارنة اللبنانيين، وارتبطت بهم، وتحولت، بفعل التجارب، ركيزة أساسية، حالها حال الحواس الخمس.
"أمي آمنت بي باستمرار، كما لو أنها هيأتني منذ الصغر لهذا المصير". يقول أمين الجميل في كتابه "الإساءة والغفران"، وهو كتابٌ يخبرنا فيه فخامة الرئيس عن خلاصة تجربته في الحكم، وعن محصلةٍ تُفيد بأنه كان، ولا يزال، المنقذ الوحيد لدولةٍ تتهاوى، أو تكاد.
في هذا الإطار، تطول الأمثلة، وتكثر الشواهد. بشير الجميّل، مثلاً، قام بتصفة وتهجير القوى المسيحية المناوئة له ليصبح الرقم "1"، وكذلك حاول الدكتور سمير جعجع، والعماد ميشال عون في حرب الإلغاء، ولاحقاً في رفض إتفاق الطائف، أو في الموافقة عليه، ثم التحفظ لاعتبارات مسيحية، تُحدد الرقم "1".
يكاد لا يخلو خطاب للدكتور جعجع، إلا ويقول فيه "راجعوا كل إستطلاعات الرأي"، نحن الرقم "1". كلامٌ لا يلبث أن يرده العماد عون لصاحبه "نحن أكبر تكتل مسيحي في تاريخ لبنان"، وبالتالي، نحن الرقم "1"، وضمن هذا الترتيب يأتي الخطاب الكتائبي أكثر تواضعاً وبراغماتية "صحيحٌ أن جماهيرنا تقلصت وتراجعت من المرتبة الأولى إلى المركز الأول، لكن كل المؤشرات تؤكد أننا سنعود إلى الرقم "1" أي إلى حيث نحن!
قبيل الإنتخابات النيابية، في السابع من يونيو حزيران العام 2009، تصدّعت رؤوسنا بالنظرية القائلة "تسونامي 2005 ولّى إلى غير رجعة". هذه النظرية أُرفقت بسيل وفير من استطلاعات "علمية"، تؤكد أن المزاج الشعبي تغيّر، وأن كتلة العماد عون لن تتخطى عدد أصابع اليد الواحدة. هذا الجو رافق، أيضاً، الانتخابات الفرعية عام 2007، لشغل مقعد النائب والوزير بيار الجميّل في قضاء المتن الشمالي. يومها دخل والده، أمين الجميّل، المواجهة، بناءً على إستطلاعات كثيرة، تفيد بأن المعركة شبه محسومة، وبأن "ورقة التفاهم" قلبت الرأي العام المسيحي رأساً على عقب.
اليوم. يُتمتم العماد عون بصوت مسموع "أنا أو الفراغ". هو قال سابقاً "لعيون صهري ما تتشكلّ حكومة". ويقول، الآن، بشكل موارب، إما أنا "الرئيس الوفاقي المنقذ" أو لا جلسة ولا نصاب ولا رئيس. لا يشعر عون بأنه يحتاجُ تبرير فعلته لأحد، أي أحد، البطريرك "عمهلو بيرضى"، وإن لم يرض فلا بأس من العودة إلى شعار "إنت البطرك يا سليمان". وفي حال أصرّ البطريرك على استفزاز عون، أي الرقم "1"، عليه أن يتحسس تجربة سلفه، وأن يتعظ منها، قبل أن ينهال "أثاث" البطريركية على رأسه!
عقدة الرقم "1" رافقت جُل زعماء الموارنة، وتحولت، يوماً تلو آخر، من فعل حميد قائم على مبدأ "النفس التواقة والطامحة" إلى فعل مدان، أساسه "أنا أو لا أحد". وبالتالي، إنهم مدعوون اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى التخلص من سلبيات الرقم "1"، وإلى المحافظة على الإيجابيات الخلاقّة، وما نتج عنها من حضارة وتقدم وانفتاح.
مقالات أخرى
26 يوليو 2014
22 يوليو 2014
15 يوليو 2014