النظام السوري والرهان على الوقت

عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، في فبراير/شباط 2005، دخل النظام السوري عزلة دولية غير مسبوقة، ترافقت مع انكفاء سياسي وانسحاب عسكري من لبنان، على وقع اتهامه "السياسي"، ولاحقاً القضائي، بتصفية الحريري. استطاعت دمشق، حينها، أن تقدّر الموقف بشكل صحيح، فانحنت أمام العاصفة، ورضخت لجلّ المطالب والضغوط، وقررت التريث، حتى ينجلي الغبار وتتبلور الصورة.

في يوليو/تموز 2006، نشب العدوان الإسرائيلي على لبنان، إثر اختطاف حزب الله جنوداً إسرائيليين عند الحدود مع فلسطين المحتلة، صمد الحزب عسكريّاً في وجه إسرائيل، لكنه، بعد ذلك، تحوّل إلى صرف صموده إلى داخل الساحة السياسيّة اللبنانيّة، فأخذت الأحداث تتسارع، واعتكف الوزراء الشيعة، ثم استقالوا، بدأ حزب الله وحلفاؤه اعتصاماً لإسقاط حكومة 14 آذار، اشتعل الوضع الأمني على المستويات كافة، بدأت أحداث مخيّم نهر البارد، ودخل لبنان مرحلة الفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية ضمن واقع سياسي وأمني لامس حدود الانفجار الشامل.

ترافقت هذه التطورات على الساحة اللبنانية مع تطوراتٍ مماثلة على الساحة الإقليمية، العراق يشهد تدهوراً أمنياً وسياسياً غير مسبوق، وفلسطين تشتعل على وقع الخلافات السياسية بين حركتي فتح وحماس، وصلت إلى حد مواجهات عسكرية دامية، أدّت، في نهاية المطاف، إلى سيطرة حماس على قطاع غزة.

في خضمّ هذا الوضع المتوتر، أخذت دمشق تتنفس الصعداء على مستوى سياساتها الخارجيّة، فحطت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، حينها، رحالها في سورية، وهي تردّد جملتها الشهيرة: نعلم أن تسوية بعض القضايا لا بدّ أن تمر عبر دمشق. وكذلك فعل الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، فعقب وصوله قصر الإليزيه، قرّر الانفتاح على دمشق، ورفض منطق العزل بحقها، معتبراً أن الحوار مع سورية سيؤدّي إلى حلحلة ملفّات مهمّة تتعلق بقضية السلام، وبالوضع السياسي في لبنان، مشيراً إلى أهمية الدور السوري ومحوريته على مستوى المنطقة برمّتها.

راهن النظام السوري، يومها، على الوقت، وعلى التطورات السياسيّة والأمنيّة التي تعصف بالمنطقة، كان يدرك جيداً أن الغرب براغماتي إلى أقصى الحدود، وبأنه يتعامل بواقعيّة سياسيّة ستفرض عليه حتماً العودة إليه لمقاربة الملفّات الساخنة، لا سيّما تلك التي تتعلق بأمن إسرائيل، أو بالاستقرار الأمني السياسي في لبنان والعراق.

اليوم؛ يلعب النظام السوري لعبة مماثلة، فحينما ارتفع الضغط الدولي، ووصل إلى حدود التلويح بضربة عسكرية، على خلفية استخدام السلاح الكيميائي، انحنى النظام أمام العاصفة، وقرر تسليم سلاحه الاستراتيجي، بهدف امتصاص الهجمة الغربية، وكسب مزيد من الوقت.

يدرك النظام جيداً أن الولايات المتحدة لا تريد إسقاطه عسكرياً، بل تسعى إلى إضعافه وسلبه قدرته ونفوذه على مستوى المنطقة، وتحويله من لاعب إقليمي وازن إلى لاعب محلي، يصارع من أجل البقاء في السلطة، عبر معركة استنزاف طويلة، ستؤدي، في نهاية المطاف، إلى إرهاق الجميع، وهذا ما أكدته، لاحقاً، هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، في تصريحات لها، وفي كتابها الأخير.

بناءً على ما تقدم، يمكن الاستنتاج أن النظام السوري وحلفاءه، شاركوا في توسيع دائرة الفوضى على قاعدة نيرون نفسها في إحراق روما، فتعاظم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" بشكل مفاجئ، وبدأ يُسيطر على مناطق واسعة جداً في سورية والعراق، وهكذا، أخذت التطورات تتسارع على وقع دراماتيكي مريب، داعش تعلن قيام الدولة الإسلامية، وتبايع زعميها "خليفة للمسلمين"، ومسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، يدعو النواب إلى تنظيم استفتاء على استقلال الإقليم، يشمل تقرير مصير كركوك، ولبنان يشهد انفجارات أمنية متلاحقة واستيقاظاً مباغتاً ومرعباً لعشرات الخلايا الإرهابية النائمة، بينما تشتعل فلسطين على خط  المعارك بين غزة وإسرائيل، في ظل تصاعد الحديث عن انتفاضة مرتقبة.

وعليه، أضحت المنطقة، برمّتها، تتراقص فوق صفيح مشتعل، وأضحى العالم بأسره أمام مشكلات كبيرة ومعقدة، وحده النظام السوري بدأ يتنفس الصعداء، يتحسس الحريق بفرح عظيم، يُراهن على الوقت، وعلى براغماتية أميركية – أوروبية، تعيد الأمور إلى منطق التسوية التي لا بد أن تمر عبر دمشق.