مسيحيو المشرق العربي: أين المفر؟

22 يوليو 2014
+ الخط -

في خضّم العواصف الدموية والإقصائية في المشرق العربي، تبرز الحاجة إلى سرد تاريخي يوضح الحيثية القائمة خلف المفاهيم الناظمة لمخططات تُحاكي منطق الحروب الباردة، وتوازن الرعب والخوف المتبادل. ففي منطقة تعج بالثروات والحضارات، كان لا بد للغرب من رسم قواعد تضبط الإيقاع العام، بما يتناسب مع مصالحه، وتضمن بقاءها فوق صفيح مشتعلٍ، يساعد في قلب الطاولة، كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وضمن هذا السياق، يندرج مشروع "حلف الأقليات" القائم على تحالف سياسي، وجودي يجمع الأقليات الطائفية، انطلاقاً من منطقة الشرق العربي، وما يعرف بالهلال الخصيب، وصولاً إلى الامتداد الجغرافي والديموغرافي لمشروع التحالف.

والحرب على العراق 2003 هي حجر الزاوية في قيام المشروع التفتيتي، وتعبيد طريقه بهدف إحداث نزاع سني  شيعي مستدام، وهذا ما حدث، فقد أخذت إيران دور الوصيّ على مفاصل الحياة السياسية العراقية، إبان سقوط الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، وتوسّع نفوذها ليشمل سيطرة شبه كاملة على أتباع المذهب الشيعي في العالم العربي، فيما لعبت دمشق، لاحقاً، دور حلقة الربط بين الأقلية الشيعية وسائر الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة، تحت شعار حمايتها وضمان وجودها وبقائها.

قبل المحاولة الأميركية، سعت إسرائيل إلى تغذية تحالفات مماثلة، معتبرة أنها تُشكل ضمانة لوجودها وديمومتها ضمن محيط عربي، يضجّ بأكثرية سنّية، باتت تُشكل خطراً محدقاً يهدد الكيان برمته، وهذا السعي الإسرائيلي إلى إقامة التحالف، قابله رفضٌ من بعض الأقليات.

في المقابل، قرر النظام السوري تبني المشروع، والمضي في إحيائه، نظراً لتقاطع مصالحه الاستراتيجية مع قيام تحالف مماثل، فحصل على ضوء أخضر أميركي  إسرائيلي، لدخول لبنان، وتنفيذ سلسلة من الأهداف، التي تضمن سحب الكوابح وتعبيد الطريق لانطلاق المشروع، وعليه، سُحق ياسر عرفات، بما يمثل الرجل من زعامة سنية تاريخية، ومن امتداد قومي - عربي عميق، واغتيل  الزعيم الدرزي، كمال جنبلاط، لأنه رفض دخول السجن العربي الكبير.

تكامل هذا الدور السوري مع الدور الإيراني، وأسس لتحالف استراتيجي أكثر تجذراً وعمقاً، وأضحى محوراً متماسكاً وصلباً يتفاعل ضمن العمق العربي. دخلت الولايات المتحدة الأميركية بقوة على خط تغذية هذا التحالف، واجتاحت أفغانستان، ثم العراق، وأرّخت لمرحلة جديدة عنوانها: الصراع السني – الشيعي، وأعادت ترتيب الأولويات، وأوجدت توازنات جديدة، تجعل الطرفين في حاجة إلى دورها ودعمها ضمن أية شروط مطلوبة.

مع تصاعد التدخلات الإيرانية، وتنامي دورها في المنطقة، أعادت واشنطن غربلة حساباتها، تمهيداً لإرساء معادلة جديدة، تضبط الإيقاع، وتعيد التوازن إلى الواقع القائم، لا سيما وأن تحالف الأقليات، الذي تمت تغذيته لإيجاد صراعٍ مولد للصراعات بين  السنة والشيعة، تحوّل إلى أداة ضغط تحركها طهران، بهدف تحقيق مكاسب في برنامجها النووي، وفي مشاريعها العسكرية والسياسية.

دخل الربيع العربي حيّز التنفيذ، وبدأت الأنظمة تتهاوى، وما زالت، واحداً تلو الآخر. رفعت واشنطن يدها عن مشروعها في دعم الأقليات، إيذاناً بهيكلة مشروع جديد، يخلق توازناً يتماشى مع التوسع والتطرف الإيراني، وفق معادلة التنافس على التطرف والأصولية بين السنة والشيعة، خصوصاً وأن إيران باتت تشكل حاضنةً لتخصيب التطرف، وتجذير الأصولية وتفريخ الإرهاب. ضمن هذا المشهد المعقـّد، يبدو نافراً توجه قيادات سياسية ودينية مسيحية، لا سيما في لبنان، تجاه الانخراط في مشروع الأقليات، بعد أن رفضوه في عزّ تألقه وبريقه وازدهاره.

اليوم، وبعد نحو عقدين على تهميش الدور المسيحي في لبنان، هناك من يحاول إدخال المسيحيين إلى "القمقم"، بعد خروج الجميع منه، يحاول التأسيس على قاعدةٍ، أثبتت فشلها المستدام، يريدهم مطية، يرتادها من كل فج عميق من أراد أن يجعل وجودهم رهناً بمصالحه، وفي لحظة السقوط التاريخي للنظام السوري، ومعه تحالف الأقليات، هناك من يعوّل، بل يطالب، ببقائه، لأنه، برأيهم، يُشكل ضمانة وجودهم واستمرارهم.

ليس المطلوب من القيادات السياسية والدينية المسيحية أن يقترعوا للشيعة، أو للسنة، في المنطقة. المطلوب منهم، اليوم، يتمثل بضرورة التزام الحياد الإيجابي، بحيث لا يشكلون طرفاً في المواجهة، التي ستحتدم يوماً تلو آخر، والسعي برحابة صدر، إلى قبول المتغيرات الكبرى، والتماشي معها، وإقامة أفضل العلاقات مع الجميع، بما يحفظ الحياد والحقوق معاً.

607E2EAD-7B79-43A0-9903-2FB14109BCEF
607E2EAD-7B79-43A0-9903-2FB14109BCEF
قاسم يوسف (لبنان)
قاسم يوسف (لبنان)