لأنهما يحبان فلسطين
في يوم واحد، صمت طبل الصفيح، وانطفأت نار الذاكرة اللاتينية. رحل غونتر غراس وإدواردو غاليانو. والكاتبان أشهر من أن يعرفا، وقد توجت جائزة نوبل للآداب عام 1999 غونتر غراس مسيرة أدبية حافلة بالإنجازات، أبرزها رواية طبل الصفيح التي اعتبرت إحدى أهم روايات القرن العشرين، وخصوصا في سياق أدب ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونجحت تلك الرواية التي ترجمت إلى لغات عالمية عديدة، في التعريف بكاتبٍ فضّل أن ينحاز لقضايا المسحوقين، ويقارع سياسات الدول الكبرى التوسعية، انتصارا لمبادئ إنسانية، لم يشرخ إيمانه بها انضمامه المبكر، وهو مراهق، لمنظمة الشبيبة النازية.
ومع أن غراس واجه، عندما كشف عن هذا الانتماء النازي القديم، عشية صدور سيرته الذاتية عام 2006، انتقادات استغلتها الأوساط الصهيونية في التعريض به، إلا أن ذلك لم يفتّ في عضد هذا الكاتب، ولم يمنعه من مناصرة القضية الفلسطينية دائماً.
عنون غراس الذي رحل الإثنين الماضي، عن تسعين عاماً، سيرته "قشور البصل"، مشبها طريقته في الحياة بعملية تقشير البصل، حيث الاستمرار في التقشير رغم الدموع، مشيرا فيها إلى الدموع التي ذرفها، وهو يمر بمحطات مفصلية كثيرة في حياته الزاخرة بالكتابة والرسم، والمعارك على أنواعها.
أما غاليانو، وهو أحد أهم الأسماء اليسارية في ثقافة أميركا اللاتينية، فلم يفز بجائزة نوبل، لكنه كان من المرشحين الدائمين منذ سنوات للفوز بها، وهو لا يقل، في شهرته العالمية، عن غراس، خصوصا بعد ذيوع كتابه "شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة" على نحو سريع، إثر إهداء الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو شافيز، الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نسخة منه. إلا أن ثلاثية "ذاكرة النار" تبقى العمل الأهم الذي أدخل غاليانو دائرة المشترك الأدبي الإنساني، بعمقها التاريخي، وتأصيلها دموع البشر المسحوقين تحت وطأة القوة الجديدة.
وعلى الرغم من أن تفاصيل حياة أديب أوروغواي، إدواردو غاليانو، تختلف عن تفاصيل حياة أديب ألمانيا، غونتر غراس، فقد تقاطعا في عدة محطات، آخرها يوم رحيلهما، وأهمها موقفاهما من قضية العرب الأولى. كل منهما مناصر لفلسطين وأهلها، مناوئ لإسرائيل وسياستها العنصرية. ومع هذا، لا يعرف قراء عرب كثيرون هذين الاسمين، مقارنة بأسماء عادية كثيرة، لم يكرسها الأدب وحده، بل الاهتمام الرسمي ذو الأهداف الدعائية الخاصة قبل كل شيء.
عندما انشغلت في الكتابة عن غونتر غراس لحظة الإعلان عن رحيله في "تويتر"، سألني أحد أقربائي عن الرجل ومن يكون، لأنشغل به إلى هذا الحد، فعرّفته كاتباً ألمانياً شهيراً أصدر كتباً وروايات عديدة، وفاز بجائزة نوبل، و... . لكن، لم تعن هذه المسيرة الحافلة شيئا لقريبي الذي واصل امتعاضه، بالقول "وخير يا طير يعني؟". أكملت تعريفي بأنه الكاتب الذي عادته إسرائيل، ومنعته من دخول فلسطين المحتلة، وشنت عليه حملة عالمية، لمجرد أنه مناصر للفلسطينيين. هنا فقط، انبسطت أسارير قريبي، وقال: "على راسي غونتر غراس... على راسي آل غراس كلهم".
وعندما أعلن بعد قليل، رحيل غاليانو، لم أحتج، هذه المرة، لسرد سيرته الذاتية والأدبية لقريبي، بل بادرت قبل أن يسألني، بالقول إنه يحب فلسطين أيضاً.
فلسطين، إذن، تبدو معياراً حقيقياً لقياس مصداقية المثقفين والأدباء العالميين وغيرهم. وشخصيا ألجأ إلى هذا المعيار، في الحكم على ناس مختلف حولهم، لما يعلنونه في كتاباتهم من مبادئ، ولم يخذلني ذلك المعيار إطلاقاً. ولكن، من الواضح أن المؤسسات الثقافية العربية لم تول ذلك المعيار، اللاحق بالتأكيد للمعيار الإبداعي الفني، اهتماماً يليق به وبدلالاته. وبالتالي، واجه أصدقاء قضايانا من المثقفين العالميين تجاهلاً وجحوداً كثيرين، مقارنة بغيرهم، بسبب الجهل بهم، وبما يمكن أن يسهموا به لأجلنا، أو بسبب اللامبالاة بهم، وبقضايانا أيضاً.