بَهْوٌ يُفضي إلى بَهْوٍ يُفضي إلى بَهْو. ومِن واحد لآخر ترتفع الحرارة دخولاً وتنخفض خروجاً، إِذ ليس دخول الحمّام كالخروج منه. وقبل الأبهاء الثلاثة بممرٍّ وفسقِيّة، هناك قاعتان لتغيير الملابس، واحدة بمشاجب والأخرى بمستودعات صغيرة. بين القاعتين مكتبُ القابض وهو عبارة عن دكّة عالية عليها فروة كبش قديمة، وأمامها لوح خشبي بقوائم، فوقه قطع صابون وشفرات حلاقة ومستلزمات أخرى.
قبالة المكتب جدار عليه مرآة لحلاقة الوجه والتملّي في الطلعة البهيّة. على يمين القابض جالساً (أو نائماً) بابٌ بدفّتين يكفي انفتاح واحدة لدخول رجل متوسّط العرض (فكيف دخل الحصان؟). وقبل الوصول إلى هذا الباب دخولاً هنالك مدخلٌ كبيرٌ، ذو قوس، مشرعٌ أبدًا على السّابلة. يقابل هذا المدخلَ مدخلٌ آخر هو مدخل حرم المسجدِ الضّريحِ الذي يُعرف الحمّام باسمه: حمّام مولاي إدريس.
مدخلان: واحد لطهارة الجسد والآخر لطهارة الروح.
مدخلان: واحد لماء الدّنيا والآخر لماء الآخرة.
والأبهاء الثلاثة مسقوفة بالسقف، تتوسّط كل سقف كوّة مختومة بالزّجاج المُقوّى من الأسفل ومربّعات الحديد من الأعلى، عدا البَهو الثالث دخولاً حيث لا كُوّة ولا ضوء. بلى، ثمة مصباح صغيرٌ وضَوْءٌ أصفر يتدلى من حيث، بفعل البخار، لا أحد يدري، وهناك على اليمين صهريجٌ طافح بماء ترتعد له فرائص البرد، وعلى يسار الصهريج قوسان صغيران ومُعتِمان للوضوء وحلاقة المستور.
قَصْدَ الوضوء كان الرّجل ينتاب الحمّام فجرَ كلِّ جمعة، وبعد أن يخلع ملابسه ويعلّقها في قاعة المشاجب يتوجّه رأساً إلى البهو الداخليّ حيث يهيّئ جسده للقاء الله، فالطريق إلى الجنّة يمر بجهنّم مثلما يمر ببخار الحمّام الطريقُ إلى نور المسجد.
حكى الرّجل فلم يصدّقه أحد.
حتى الذين سبق لهم أن شاهدوا الحصان لم يصدّقوا، إذ لم يخطر ببالهم أنّ حمّال الحطب ذا العظام البارزة هو نفسه لغز الحكاية.
بين الحمّام والمسجد زقاق ضيّق على جانبيه أبواب واطئة لدكاكين ومشاغل تقليدية، من بين هذه الأبواب باب مشرع على العتمة فالحرارة فالنار التي وقودها الأخشاب والنِّشارة. إنه باب الفرناتشي حيث الفرن بفمه الأدرد يزدرد الحطب تلو الحطب ليشفي غليل الماء، جارِه الذي في الصهريج.
حكى الرّجل قال: كان الوقت فجرًا والقابض نائماً حين دخلتُ، لم يردَّ السلام مع أنّه كان جالساً في دكّته المعهودة يَسارَ الباب، وظهره إلى الحائط. قلت إنّه نائم، ثم اتجهتُ صوب المشاجب ومنها إلى الداخل، حيث لم أكن أتوقّع أن أجد أحداً في ذلك الفجر الممطر. تناولت سطلين فارغين من البهو الأوّل واتّجهت رأساً إلى الصهريج حيث ضالّتي.
عند عتبة البهو الثالث ووسط البخار الكثيف رأيتُ، كأنّي رأيت، لم أعرف ما إذا كان عليّ أن أتقدّم أم أتراجع، قلت لنفسي: هل يخاف من كان هنا لأجل الوضوء ولقاء الله، ثم تقدّمت متحاشياً النّظر في عينيْ الحصان، ملأت السّطلين وانتبذت مكاناً تحت قوس الوضوء، فيما بدأت تتوارد على ذهني كل الحكايات التي سمعت عن مواقف مماثلة. تذكّرتُ أنّ أقدام الجنّ تنتهي بحوافر، فرفعت عينيَّ إلى قوائم الحصان فإذا هي أيضاً بحوافر، فكاد ظنّي أن يتأكد لولا أن سمعت من يهمس لي ضاحكاً: ومتى كانت للحصان عجلات؟ توضّأت بسرعة مسلّحاً بكلام الله ثم غادرت متحاشياً هذه المرّة النّظر إلى الحصان كلّه.
حكى الرّجل فلم يصدّقه أحد.
كان يرتدي ملابسه متردّداً في أمر إخبار القابض بما حدث، وحين انتهى تقدّم منه متنحنحاً وفي يده القطع النقدية ثمن الوضوء (فدخول الحمّام ليس كالخروج منه)، استفاق القابض على رنين القطع تلكَ وعلى وجهه كل علامات الأسف، فقد كان عليه أن يخبر الرجل قبل الدّخول حتى يجنِّبه موقفاً تَشِحُّ لها الدّماء.
تناول الدراهم شاكراً ثم جعل يستعطف الرجل ويرجوه ألّا يخبر أحداً، فالحصان واحد من خُدّام هذا الحمّام قال، عشر سنوات وهو يحمل الحطب إلى الفرناتشي، ولقد أصيب بنزلة برد جرّاء العرق الذي يتصبّب منه والمطر الذي يهطل عليه هذه الأيام، فجاء به صاحبه إليّ بعد منتصف الليل ورجاني أن أُدخِله إلى البهو الداخلي لبعض الوقت فقط، وحين وافقت إشفاقاً، جعل يلقّمه السّمن البلديّ قسراً حتى إذا التقى بالحرارة المفرطة صار شفاء من البرد.
كان القابض يشرح للرّجل حين دخل رجل آخر ليس سوى صاحب الحصان الذي كاد أن يقبِّل يد الرجل حتى يكتم الأمر، فلو علم صاحب الحمّام بالحكاية لطرد الجميع. هكذا غادر الرجل كابوس الحمّام إلى حلم المسجد بعد أن وعد الرجلين بالصّمت. لكن، وهو منصرف، التفت فإذا قوائم مكتب القابض تنتهي بحوافر هي الأخرى.
لم يحك الرجل حكايته لأحد، ولو فعل لصدّقه الجميع، فالدّخول إلى الحكاية ليس كالخروج منها. أمّا كيف علم الجميع بالحكاية، فلا بد أن رجلاً آخر (لم ير حوافر المكتب) هو الذي حكى عن حصان آخر في حمّام آخر (وإلّا كيف دخل الحصان؟). وربّما حدث الكابوس في ليل حكاية أخرى. والله أعلم.
* كاتب من المغرب