كم أبو خيزران قتل السوريين؟

01 سبتمبر 2015
+ الخط -
إذا امتلك حداً أدنى من الإنسانية، وقليلاً من الإحساس بالآخر، وقطعة صغيرة باقية من القلب، فإن أول ما يمكن أن يصيب المرء، حين يرى صور الشاحنة الهنغارية لنقل لحوم الدجاج المجمد، وقضى فيها 71 سورياً، شعور بأن هذا هو الموضوع الأخير في العالم. وأنه لن يرى أو يسمع ما هو أسوأ، ولن يتحدث عن موضوع آخر في بقية حياته، ولن يسمح لأحد أن ينتج أفلاماً أو يكتب روايات أو يخوض في أحاديث مقاه، وسيقاطع أياً كان، ليعيد على مسامعه حكاية أولئك السوريين الذين فرّوا من الموت في حلب أو دمشق أو درعا أو دمشق، وقطعوا بحاراً وغابات، وعبروا أسلاكاً شائكة لحدود بلدان، تركوا كل شيء وراءهم وذهبوا متمسكين بالحياة.
تكدسوا، في رحلتهم تلك، في شاحنة دجاج عبرت بهم الطريق إلى النمسا، وفي الأثناء، كانت أحلامهم الأخيرة تخرج مع أنفاسهم الأخيرة. غادروا مكاناً ينقصهم فيه كل شيء، فوصلوا إلى مكان فيه كل شيء، باستثناء شيء صغير وبسيط ومتاح: الهواء.
ما صرت متأكدة منه، أن العالم خلا من المنتحرين، وأن أحداً لن ينتحر بعد الآن، فمن شاهد تلك الصور، وعرف تفاصيل القصة ولم ينتحر، فلن يملك سبباً آخر ليفعلها، فقد منحته الحياة فرصته الأخيرة لذلك.
أتخيّل لحظاتهم الأخيرة، أتخيل الأم المحنيّة فوق طفلها ذي العام والنصف، وهي تحبس أنفاسها وتقلل من تواتر شهيقها وزفيرها، لعلها توفر لابنها نفساً إضافياً. أتخيّل الرجال، وقد احتقنت وجوههم من نقص الهواء، ونظراتهم المذعورة، هل عرفوا ما يجري يا ترى؟ هل تقاطعت سعلاتهم وفركوا أعناقهم، وهم يبحثون في الفضاء الضيق المحيط بهم عن ذرة أوكسجين إضافية؟ هل باغتهم نقص الهواء، أم تسلل إليهم شيئاً فشيئاً؟ هل تألموا؟ لا يهم، فنحن سنتألم بالنيابة عنهم لما تبقى من حياتنا.
أتخيّل أحلامهم الصغيرة، وهي تخرج من رؤوسهم مع أنفاسهم الأخيرة، أتخيّل شعورهم وقد شعروا أن خلاصة مغامرتهم الطويلة والمكلفة أنهم استطاعو الموت اختناقاً، في بلد متقدم كالنمسا، يا للإنجاز! بدلاً من الموت ببرميل متفجر في بلد تمزقه الحرب، تحصل على الموت في برميل مغلق. لكن، في بلد هجر الحروب.
في روايةٍ تُذكر، منذ أكثر من خمسين عاماً، بتقدير كبير، جمح خيال الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، فكتب عن ثلاثة فلسطينيين يعبرون الحدود العراقية الكويتية داخل خزان سيارة يقودها المهرب أبو الخيزران، الذي يتباطأ على الحدود الكويتية، وهو يروي حكاية مختلقة لموظف الجمارك، فيعود ليجد الثلاثة وقد ماتوا اختناقاً في الخزان.
اعتبرت الرواية (أنتج عنها فيلم سينمائي) تلخيصاً بليغاً للمأساة الفلسطينية، ودرس النقاد الرمزية فيها، والعمق الذي عالجت به القضية.
روايتنا السورية الطازجة روتها الحياة، لا خيال الكاتب، بشكل أشد قسوة ووضوحاً وألماً. وبعدد أكبر من الأبطال، وبأكثر من أبي خيزران.
أبو خيزران الأول والرئيسي هو الذي تمسك بكرسيه، إلى درجة، أنه، في سبيل ذلك، دمر بلده وقتل شعبه، ودفع الملايين ليخوضوا في أكثر المخاطر التي يمكن لبشري تخيلها، كي يفروا من جحيمه.
عبروا البحر على طوّافات بدائية، وقطعوا الحدود بين الدول زحفاً، وسيراً على الأقدام، متعلقين بالشاحنات، أو مهتدين بنجوم السماء. وأخيراً، متكدسين في شاحنة لنقل لحوم الدجاج.
أبو خيزران الثاني هو الشخص الذي انبرى ليجعل من نفسه مناضلاً وقائداً وسياسياً وممثلاً لثورة شعب، ولم يقدم لهم سوى الوهم والوعود الزائفة.
أبو خيزران الثالث نحن الذين نجونا بجلودنا، تاركين أهلنا وأبناءنا ليواجهو الغيلان وحدهم. ربما يكون المهرب الذي ترك جثث المختنقين على طرف الطريق وهرب أبا خيزران أيضاً، لكنه سيكون أبا خيزران المائة أو الألف أو المليون. فمأساة بهذا الحجم وهذه القسوة لا يمكن أن يتسبب بها شخص واحد، ولا عدة أشخاص، ولا أحزاب ومؤسسات ودولة ما. هذه مأساة لا يمكن أن تقع ما لم يكن هناك خلل بنيوي في المنظومة التي نعيش فيها، في النظام العالمي، وفي الشعور الإنساني، في موقف الدول جميعاً، وفي تشابك علاقاتها.
أي درك وصلت إليه المأساة السورية؟ وإلى أين يمكن لها أن تصل؟ وما الذي سنفعله ونرويه فيما تبقى من حياتنا؟


A78EE536-6120-47B0-B892-5D3084701D47
علا عباس

كاتبة وإعلامية سورية