قوننة النهب أعلى مراحل الفساد

21 أكتوبر 2015
+ الخط -
بات واضحاً أن السلطة في مصر تمارس دعاية تتسم بالخداع الممنهج، لكن انجلاء الحقائق يكشف سخف هذه الدعاية التي تمتزج بخيال السينما الهندية. مشهد القبض على وزير الزراعة، صلاح هلال، فور خروجه من اجتماع مجلس الوزراء، أحد مشاهد الدعاية الصاخبة، يبدو أن "السوبكية" ظاهرة للعصر، ولا تقتصر على أفلام المقاولات، بل هي نزع أصيل فى دعاية السلطات المستبدة. وعلى الرغم من سينمائية المشهد، إلا أنه كشف عن عدة دلالات، منها أن هلال ليس المتورط الوحيد بين وزراء حكومة إبراهيم محلب، كما أن هذه الواقعة فتحت باب التساؤلات حول آليات اختيار السلطة رجالها؟
على كل حال، يبدو أن السلطة أرادت تحقيق عدة أهداف في هذه الواقعة، فمن جانبٍ، تريد تبيض وجهها وغسل يديها، وأن تدلل أنها لا تقبل بالفساد والمفسدين بين صفوفها. ومن جانب آخر، توظف المشهد لغرضين. الأول، تغير وزاري محدود، يرفع السخط الشعبي عن مؤسسة الرئاسة، ليصبه على الوزارة. والثاني، بث رسالة مفادها بأن الإخفاقات المتتالية في ملفات الاقتصاد، وما يتضمنه من ارتفاع لأسعار السلع والخدمات، أو الملف السياسي الذي وضح فيه تراجع هامش الحريات وموت عملية السياسة يرتبط بأداء وزارة محلب.
تزامن مع واقعة الوزير حديث الفساد المصطنع، وهو حديثٌ لا يتطرق إلى نوع الفساد الأكبر الذي يمارس، والذي نعني به تقنين النهب تشريعياً، ذلك النوع يعتبر أعلى مراحل الفساد وأخطرها، حيث يقر في صورة تشريعات وقوانين وقرارات اقتصادية، تستأثر لجنة الإصلاح التشريعي والمجموعة الاقتصادية بتلك القرارات، ويتم تمريرها عبر مؤسسة الرئاسة، بوصفها المشرع فى غياب البرلمان.
ولهذا السبب، الدعوات التي تصدرت الصحف المصرية عن شفافية النظام ومحاربته الفساد مجرد شعارات، فلا يمكن تصديقها في ظل أن الفئات المستفيدة من الفساد هي التي تحكم الآن، وبالتالي، لن تقف ضد مصالحها، بل تسعى إلى تقنينها قانونياً، وحتى لو صدّقنا دعوات أبواق النظام وشعاراته حول الحرب على الفساد، فكيف نصدقهم في ظل عدم محاسبة فاسدي عصر حسني مبارك، ممن نهبوا الثروات طوال 30 عاماً. لم يكتف النظام بعدم المحاسبة، بل عدل قانون الكسب غير المشروع، ليبرئ الفاسدين ويتصالح معهم، عدل القانون خصيصاً ليرجع هؤلاء أبرياء بدون ملاحقات، وسيتمتع بهذا التعديل رموز فساد، مثل أحمد عز وحسين سالم وأبناء مبارك بالدم وبالانتماء للطبقة نفسها.
يخدع بعضهم بحالات الفساد التي يتم تحويلها إلى القضاء، لكن تاريخ النظام يكشف لنا أن
كثيراً من تلك الحالات تخضع لآليات التوظيف السياسي، حيث تجنح السلطة، أحياناً، إلى الاستعراض بحالة عقاب مسؤول أو وزير، إضافة إلى أن كثيراً من تلك الحالات تكون نتاج صراع بين أطراف السلطة نفسها، فوحدة مصالح السلطة وتكاتفها، لا يلغي وجود خلافات وتناقضات غير أساسية، ترتبط بالتنافس السياسي والاقتصادي بين فرقاء الفساد، وإذا أخذنا، فى الاعتبار، تعدد أجهزة الرقابة وترسخ النموذج البوليسي، ندرك إمكانية استخدام ملفات الفساد فى تلك الصراعات، وقد سبق وأن قدم وزيران للقضاء في عهد حسني مبارك، والذي يتصف بأزهي عصور الفساد. في مثل هذه الحالات، توظف السلطة رجالها في وسائل الإعلام للدعاية، أو لحسم الصراعات.
بينما الفساد الممنهج والقائم على الاستيلاء على جهاز الدولة وتسخيره لمصلحة مجموعات المصالح لا يتم إدانته، دوماً تعمل النظم المستبدة في خدمة قوى النهب بكل الوسائل، وأبرزها التشريع. وهنا، تتجلى خطورة سيطرة مجموعات المصالح على اتخاذ القرار، وتعد مسألة إصدار التشريعات الاقتصادية الأداة الأشد خطورة، كونها تنهب الشعب من جانب، وتقوم بتوسيع دوائر النفوذ وتراكم المكاسب لمجموعات المصالح، من جانب آخر، ينتج هذا الوضع مزيداً من الهيمنة السياسية والاقتصادية لتلك المجموعات. لذا، يمكننا القول إن الاستيلاء على جهاز الدولة والتشريع، وحرمان المصريين من اتخاذ القرار والمشاركة في السلطة والثروة هو أعلى مراحل الفساد، وإن التشريعات التي تجاوزت 300 قانون، أغلبها ذو طبيعة اقتصادية، كان هدفها الأساسي دعم مكانة مجموعات المصالح.
لا يتسع المجال، هنا، للحديث عن مجمل القوانين. لكن، يمكن تلمس أن أهدافها تتمحور حول تراجع دور الدولة الاجتماعي، بما فيه من الصرف على الخدمات وتوفير العمل والضمان الصحي والاجتماعي، وكذلك زيادة واردات الدولة من المتحصلات الضريبية، ورفع أسعار الخدمات والسلع، وهذا كله في منظومة واحدة، يحاول فيها النظام استكمال حكمه، والخروج من أزمته الاقتصادية. ويرتبط أغلبها بما تسمى منظومة الإصلاح الاقتصادي والإداري التي تهدف إلى استكمال برنامج التحرير الاقتصادي، وما يرتبط بها من إجراءات تقشفية. وفي هذا الصدد، يمكن إدراج قانون الخدمة المدنية الذي يطبق على 6 ملايين، ويستهدف تخفيض العمالة وتقليل الأجور والحوافز. وللمصادفة، تم ترويج القانون تحت دعاوى محاربة الفساد الإداري، لكن فعلياً، لن يمس القانون الفئات التي تحصد أغلب الميزانية المخصصة للأجور داخل الموازنة العامة، وهم مديرو العموم والمستشارون، وسيطبق على العاملين بالدرجات الأدنى في السلم الوظيفي. وكذلك يقع قانون التصالح مع الكسب غير المشروع في إطار تشريعات الفساد، حيث يسمح للنخب المنتمية لحسني مبارك بتبرئة نفسها، والإفلات من العقاب. ويحتل قانون الاستثمار الجديد موقع الصدارة في قوانين الفساد، لما يحتويه من مواد تمكن رجال الأعمال من نهب الموارد، والتهرب من دفع الضرائب تحت شعارات دعم الاستثمار. وهذا القانون تحديداً هو تجميع للقوانين التي أصدرها المخلوع حسني مبارك فى التسعينات، وعبر هذه القوانين، تم بيع القطاع العام، وتخصيص ملايين الأفدنة من الأراضي لرجال الأعمال برخص التراب.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".