لا تبدو مصادفةً أن يتجدد الحديث عن قرب إبرام صفقات عسكرية بين مصر وإيطاليا كلما تجدد الضغط السياسي من روما على القاهرة لكشف الحقيقة في قضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، والذي اختفى في القاهرة في 25 يناير/كانون الثاني 2016، وعثر على جثته وعليها آثار التعذيب على طريق القاهرة - الإسكندرية مطلع فبراير/شباط من العام نفسه، مع استمرار فشل التعاون القضائي بين البلدين في التحقيقات القائمة.
المعلومات هذه المرة من موقع إيطالي محلي متخصص في الشؤون العسكرية، وتدور حول محاور عدة، أولها احتمال وشيك بتوقيع صفقة تسليح قياسية بين القاهرة وروما بمبلغ 9 مليارات يورو، وثانيها موافقة الحكومة الإيطالية على بيع مصر فرقاطتين من نوع "فريم" متعددتي المهام بقيمة 1.5 مليار يورو. وتنضم هاتان الفرقاطتان إلى مثيلتهما التي سبق واشترتها القاهرة من باريس. أما المحور الثالث فهو احتمال أن تتضمن الصفقة الكبرى طائرات مروحية ومقاتلات من طراز "يوروفايتر تايفون".
وكشفت مصادر دبلوماسية أوروبية في القاهرة، لـ"العربي الجديد"، أن القاهرة أبلغت، في الخريف الماضي، كلاً من روما وباريس برغبتها في "رفع كفاءة قواتها البحرية، وتوسيع الأسطول الخاص بالفرقاطات متعددة المهام"، وأن "فرنسا أبلغت مصر في حينه بأنها لن تستطيع الوفاء بالطلبات الخاصة بها على نحو سريع، وأن إيطاليا لديها قطع جاهزة من الفرقاطات فريم، يمكنها إمداد مصر بها في ربيع 2020 كحدٍّ أقصى".
وذكرت المصادر أن الصفقة لم يتم إبرامها بشكل رسمي حتى الآن، ولكنها في طور الإنهاء، إذ تبقى فقط موافقة الخارجية الإيطالية على خطابات الضمان واعتماد البيع. ويأتي ذلك بعدما تمّ بالفعل تمويل نحو 30 في المائة من قيمة صفقة شراء الفرقاطتين "فريم" بواسطة قروض حصلت عليها مصر من مصارف أوروبية، ونسبة مماثلة ممولة من قروض حكومية، والنسبة الباقية سيتم دفعها مباشرة من الحكومة المصرية، وهي حوالي 500 مليون يورو.
ووفقا لأسعار السوق هذا العام، فسعر الفرقاطة "فريم" التي يتم إنتاجها في فرنسا وإيطاليا، يناهز حالياً 700 مليون يورو، وستحصل مصر في الصفقة نفسها، بالإضافة للفرقاطتين، على عدد من الأسلحة البحرية وتكنولوجيا المراقبة والتسيير عن بعد.
وذكرت المصادر الأوروبية أن ملف الفرقاطتين مختلف عن باقي المعدات العسكرية التي ترغب مصر في الحصول عليها من إيطاليا أيضاً، على أن يتم إبرام تلك الصفقات لاحقاً. وهناك بعض الخلافات حول محتوى هذه الصفقات، لكنها ستشمل بالتأكيد طائرات مقاتلة، وطائرات مروحية من طراز "أغوستا ويستلاند 149" لم تحصل عليها مصر بعد، على الرغم من طلبها في إبريل/نيسان الماضي من شركة "ليوناردو" في روما.
وشهدت الساعات الماضية هجوماً شديداً من بعض نواب حزب حركة "الخمس نجوم"، على رأسهم النائب فابيو ماسيمو كاستالدو، نائب رئيس البرلمان الأوروبي والمحامي المعروف بتبنيه قضايا حقوقية عديدة، والذي طالب بوقف تصدير الأسلحة لمصر في ظّل سوء أوضاعها الحقوقية من جهة، واستمرار التعتيم على حقيقة ما حدث لريجيني من جهة أخرى، وهو موضوع يحمل أهمية أكبر للمواطنين الإيطاليين.
وحدث هذا بالتزامن مع هجوم سياسي جديد من بعض النواب الإيطاليين على مصر بسبب القبض على الباحث المصري باتريك جورج زكي الذي يدرس في جامعة بولونيا الإيطالية، لدى عودته إلى القاهرة الأسبوع الماضي. وجرى التحقيق مع زكي وحبسه 15 يوماً بتهمة استخدام صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في التحريض على قلب نظام الحكم والتظاهر وتكدير السلم العام، وغيرها من الاتهامات المطاطية التي باتت توجه للنشطاء والباحثين باستخدام صفحاتهم الشخصية أو حتى صفحات منسوبة لهم كذبا، بهدف ملاحقتهم وتخويف دوائرهم السياسية والبحثية.
وبدأت إيطاليا في تصعيد الضغط مرة أخرى على مصر، منذ سبتمبر/أيلول الماضي، مع خروج الحليف الأبرز للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في روما، زعيم حزب "رابطة الشمال" ماتيو سالفيني، من التحالف الحكومي، وزيادة عدد المقاعد الوزارية الخاصة بحركة "الخمس نجوم" وتولي زعيمها الشاب لويجي دي مايو وزارة الخارجية، خلفاً للوزير المستقل القريب من سالفيني، إنزو ميلانيزي.
وقبل أيام، صعّد رئيس مجلس النواب الإيطالي روبرتو فيكو، وعدد من نواب "الخمس نجوم"، ضغطهم على حكومة رئيس الوزراء جوسيبي كونتي، لممارسة مزيد من الضغوط "الواقعية" على مصر لكشف الحقيقة. وقالت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد" إن السفارة المصرية في روما رصدت محاولة ممنهجة من نواب ووسائل إعلام وبعض النشطاء اليساريين لنشر دعوات إلى مقاطعة مصر سياحياً، إلى حين الإفصاح عن الحقيقة، أو على الأقل تعاطي القاهرة بشكل إيجابي مع الأسئلة الإيطالية الرئيسية في تحقيقات ريجيني، التي قدمها ادعاء روما للنيابة المصرية خلال اجتماع استئناف التعاون القضائي بين البلدين الذي انعقد منتصف الشهر الماضي في القاهرة.
وكانت وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية الإيطالية، نشرت تفاصيلها "العربي الجديد" في يوليو/تموز الماضي، قد كشفت أن مصر حققت رقماً قياسياً على مستوى مشتريات الأسلحة والذخائر والنظم المعلوماتية الأمنية الإيطالية في العام الماضي، تخطى الـ69 مليون يورو، وهو أكثر من ضعف أكبر مبلغ دفعته مصر نظير الأسلحة الإيطالية في عام واحد على الإطلاق، برقم يفوق بكثير سعر مشترياتها من الأسلحة والذخيرة في جميع الأعوام من 2013 إلى 2017. ففي عام 2013 استوردت مصر أسلحة من إيطاليا بمبلغ 17.2 مليون يورو، وفي عام 2014 استوردت بمبلغ 31.8 مليون يورو، وفي عام 2015 بلغ ثمن الواردات 37.6 مليون يورو، ثم انخفضت الواردات بشكل ملحوظ عام 2016 ليبلغ سعرها 7.1 ملايين يورو، وفي 2017 ازدادت بصورة طفيفة إلى 7.4 ملايين يورو، قبل أن تصل إلى مستوى قياسي في عام 2018 بمبلغ 69.1 مليون يورو.
وكانت أبرز البضائع العسكرية المستوردة، المسدسات والبنادق الصغيرة لتسليح الجيش، والقنابل، وقطع غيار بعض الأسلحة الأميركية الصنع المنتجة حصراً في إيطاليا، وأنظمة التوجيه والقيادة والسيطرة الميدانية، وهي قابلة للاستخدام العسكري والشرطة، وأجهزة إلكترونية ورادار مختلفة للاستخدام العسكري، والأنظمة المعلوماتية الذكية التي تم توريدها إلى هيئات مختلفة بالجيش وكذلك للشرطة.
وربطت مصادر دبلوماسية مصرية آنذاك بين "هذه الزيادة الهائلة في استيراد الأسلحة من إيطاليا وبين رغبة النظام في إرضاء روما وتقليص احتمالات الصدام معها، على خلفية استمرار الجمود في ما يتعلق بالتعاون المشترك في تحقيقات قضية ريجيني، وكذلك الخلافات السياسية بين البلدين حول ليبيا ومستقبل حكومة الوفاق الوطني وقائد مليشيا شرق ليبيا خليفة حفتر الموالي لمصر".
وكان آخر ضغط سياسي على مصر بالطرق الدبلوماسية قد حدث بعد تشكيل حكومة جوسيبي كونتي الأولى، باستدعاء السفير المصري لدى روما هشام بدر، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، لحثّه على نقل الغضب الإيطالي من التباطؤ المصري، بعدما أصرت النيابة العامة المصرية على عدم منح نظيرتها الإيطالية تفاصيل التحقيقات التي من المفترض أنها أجرتها في قضية مقتل أفراد عصابة السرقة التي ادعت الشرطة أنها هي التي اختطفت ريجيني بدافع السرقة.
وكانت مجموعة من النواب المنتمين لليسار وحركة "الخمس نجوم" وغيرها من الأحزاب، سبق وطالبوا بتخفيض المبيعات العسكرية وصادرات الأسلحة لمصر عند اتخاذ البرلمان الإيطالي قراراً بتجميد العلاقات مع البرلمان المصري في خريف 2018، وهو المشروع الذي لوّحت به حكومة كونتي مراراً، لكن لم يدخل أبداً حيز التنفيذ.